الصفحة الرئيسية البحث البريد الالكتروني RSS
فلاشات إخبارية
 
تصغير الخط تكبير الخط أرسل لصديق طباعة الصفحة

مقالات صحفية مختارة > الهيئات الاقتصادية في مواجهة «الدولة القادرة والعادلة»





    
    
اياد علي الخليل   السفير 8-12-2012

«بقدر ما تشعرون، أيها اللبنانيون أن حاجاتكم الأساسية، المفروض في الدولة تأمينها، تسير إليكم كحقوق لا كهبات، وتصل إليكم مجردة من المنة، ولا يمليها تمييز ولا يشوبها تفريق، يحق لكم أن تطمئنوا أن طلائع الجهد المبذول لن تمنعها عن التقدم والتوسع، حتى تعم الوطن في مختلف مناطقه، والشعب في مختلف فئاته»
الرئيس فؤاد شهاب (٢٢ تشرين الثاني 1962)

تحاول الهيئات الاقتصادية أن تصنف نفسها فوق المصالح السياسية الضيقة، وأن أولويتها هي مصلحة الاقتصاد الوطني، وأنها «المؤتمنة» عليه دون سواها. وبالتالي كل ما توصي به هو في مصلحة الاقتصاد اللبناني، وتصور أي توصيات مختلفة بأنها مدمرة للاقتصاد.
تجلى هذا المنطق، أخيراً، في قضية سلسلة الرتب والرواتب لموظفي القطاع العام، وفي الأسلوب الفوقي والطبقي التي تعاملت به هذه الهيئات، رافضة أي رأي مختلف، حيث أرادت نسف السلسلة من أساسها دون أن تفاوض موضوعياً في الأرقام. هذا الموقف هو أشبه بموقف «أيدولوجي»، يسعى إلى تحجيم دور الدولة إلى أقصى الحدود، حيث ينحصر في حماية مصالح المتنفذين، على حساب الإدارة العامة، وقد نجح في ذلك إلى حد بعيد.
إن نموذج الدولة الديموقراطية والحديثة الذي بدأ في أوروبا يقوم على منطق العقد الاجتماعي الذي يسعى إلى إشراك جميع شرائح المجتمع في بناء الدولة، وفي الخيارات الاجتماعية والاقتصادية، وينهي تهميش أي شريحة اجتماعية، وعلى وجه الخصوص العمال. وحيث تتحول الدولة من أداة في خدمة المتنفذين، إلى الدولة الراعية في خدمة الوطن والمواطنين. إن المنطق الإقصائي الذي اتبعته الهيئات الاقتصادية، هو أبعد ما يكون عن الديموقراطية التي تسعى إلى إنصاف جميع المواطنين على قاعدة المساواة والعدالة الاجتماعية، في طليعتهم العمال الذين يشكلون الشريحة الأكبر.
أولاً، تدعي الهيئات الاقتصادية أن إقرار سلسلة الرتب والرواتب يؤدي إلى انهيار اقتصادي يزيد من حالة الانكماش الحالية، الناجمة عن أوضاع المنطقة والتي تنعكس عدم استقرار سياسي وأمني في البلاد. وحيث تأثر مباشرة القطاع السياحي الذي يشكل محركاً أساسياً للاقتصاد الوطني، إضافة إلى الصادرات، خاصة الزراعية، التي تشكل سوريا البوابة الرئيسية لها. وتقول هذه الهيئات، ان الحل يكون باعتماد سياسة التقشف المالي وخفض النفقات العامة.
إن هذا الطرح يتناقض كثيرا مع أبسط القواعد الاقتصادية التي تقول بزيادة الإنفاق العام في حالات الركود الاقتصادي، ما يعرف بالتحفيز المالي، لإعادة تحريك الدورة الاقتصادية. أصبحت هذه السياسة معتمدة للخروج من الركود الاقتصادي منذ الانهيار الاقتصادي في العام 1929، وأثبتت فعاليتها في الماضي كما في الأزمة العالمية الحالية التي باتت تعرف بـ«الانكماش الاقتصادي الكبير»، كونها الأقوى منذ العام 1929.
فالبلدان التي لجأت إلى سياسة التحفيز المالي عبر زيادة الإنفاق العام، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية التي زادت في إنفاقها العام حوالي 800 مليار دولار أميركي في اقتصاد يقارب حجمه الـ14,000 ألف مليار (أي حوالي الـ6% من الناتج المحلي)، تمكنت من الحد من هذا الانكماش وتفادي أن يتحول إلى درجة الانهيار الاقتصادي الكبير، على غرار انهيار 1929، وذلك بشهادة وتوصيات، أبرز الاقتصاديين في الولايات المتحدة الأميركية أمثال جوزيف ستيغليتز، بول كروغمان، نورييل روبيني وجيفري ساش. فبينما تقلص الاقتصاد بمعدل 6% سنوياً خلال العام 2009، سرعان أن عاد النمو إلى حوالي الـ3% في العام 2010، وبدأ الانخفاض في معدل البطالة من حوالي الـ12% إلى حوالي الـ9% نتيجة هذه السياسة.
أما سياسة التقشف التي اضطرت دول اليورو إلى اعتمادها، بسبب القيود التي تفرضها اتفاقية ماسشتريت على الإنفاق العام، وحجم العجز في الموازنة العامة نسبة إلى الناتج المحلي التي تحددها بـ3%، حرمت الدول المنضوية في اليورو من استعمال سياسة التحفيز المالي، عبر زيادة الإنفاق العام، فكانت نتائج هذا الاحجام كارثية على الاقتصاد، من حيث انخفاض الإنتاج وازدياد البطالة زيادة قياسية.
فأزمة اليونان (كما البرتغال واسبانيا) مثال واضح على ذلك حيث يتواصل الانخفاض في الناتج المحلي منذ العام 2008، بمعدلات -3,3%، -3,5%، و-7% لأعوام 2009، 2010، و2011. كما ارتفعت معدلات البطالة ارتفاعا مخيفا، حيث يتوقع أن يصل معدل البطالة في العام 2012 إلى الـ24% في اليونان، 25% في اسبانيا و15,5% في البرتغال، وذلك بحسب التقرير السنوي لصندوق النقد الدولي لعام 2012 حول أوضاع الاقتصاد العالمي. كل ذلك، «بفضل» سياسة التقشف الاقتصادي وخفض النفقات العامة، التي يفرضها المصرف المركزي الأوروبي وصندوق النقد في سبيل والتزاماً بمعايير اليورو. ونتائج ذلك كانت واضحة على الاستقرار الاجتماعي الذي تجلى في التظاهرات والمواجهات العنيفة بين المتظاهرين والشرطة في اليونان.
فيما كان لافتاً، عدم تعرض البلدان غير المنضوية باليورو لأزمات مشابهة، حتى ان معظمها شهد معدلات نمو ملحوظة، وصلت إلى الـ8,5% في تركيا، 4,3% في بولونيا، 6% و5,5% في ليتوانيا ولاتفيا، و4% في السويد.
بناء عليه، فإن نظرية الانهيار الاقتصادي غير موفقة وبعيدة عن الواقع، من حيث القواعد الاقتصادية الابتدائية، ومن حيث الواقع الاقتصادي الحالي في لبنان. خاصة عندما نقارن مع التجارب الحديثة في بلدان أخرى لديها واقع اقتصادي مشابه، ظهرت فيها نتائج هذه السياسة كارثية وأدت إلى زيادة حجم الانكماش الاقتصادي والبطالة إلى مستويات مخيفة.
أما الطرح الثاني للهيئات الاقتصادية، حول تأثير الزيادات في الإنفاق العام الناتجة من إقرار السلسلة، على مستوى الأسعار ومعدلات التضخم الأكثر موضوعية وواقعية، ويجب أخذه في عين الاعتبار. علماً أن لبنان يعاني من ركود اقتصادي يجعل تأثير هذه الزيادة ينعكس إيجاباً على النمو الاقتصادي، أكثر من تأثيره على مستوى الأسعار ويجعل شبح التضخم المؤثر بعيداً.
والسبب الثاني لاستبعاد احتمال التضخم المؤثر، هو أن السلسلة ستمول عبر زيادة ليس عبر الاستدانة من مصرف لبنان، ما يعرف بطبع العملة الإيرادات الضريبية، والتي تؤدي إلى زيادة الكتلة النقدية في الاقتصاد، وبالتالي إلى إمكانية التضخم المؤثر. ومن هنا تأتي توصية حاكم مصرف لبنان في غير موضعها من حيث تأثير هذه السلسلة على الاستقرار النقدي، التي اعتمدتها حكومات ما بعد الطائف ونفذها مصرف لبنان بنجاح. علماً أن كلفة هذا الاستقرار جاءت مرتفعة على الاقتصاد الوطني، عبر ارتفاع الفوائد وتسارع نمو الدين العام، إضافة إلى ارتفاع كلفة الاستثمار العام والخاص وبالتالي تقويضه إلى حد بعيد.
كما أدت هذه السياسة النقدية إلى إعادة توزيع الدخل، وازدياد التفاوت في المداخيل لمصلحة أصحاب المصارف والثروات الذين تمكنوا من توظيف فائض أموالهم في سندات الخزينة، وبفوائد مرتفعة جداً دون الكثير من العناء والكلفة، مكنتهم من الابتعاد عن تمويل قطاعات إنتاجية كالزراعية والصناعات المشتقة منها، أو السياحة البيئية... والشركات الصغيرة والمتوسطة.
فيما كانت تشكل خدمة الدين العام حوالي 25% من مجموع الإنفاق الحكومي في العام 1993، أصبحت هذه النسبة حوالي 35% في العام 2011 وتستنزف 43% من الإيرادات الحكومية، علماً أن معظمها يذهب مداخيل وأرباح للقطاع المصرفي. بينما كانت تشكل نسبة خدمة الدين العام إلى الناتج المحلي حوالي الـ5% في العام 1992، أصبحت 10% في العام 2010 أي ضعفي حصتها من الناتج المحلي، الأمر الذي يشير إلى إعادة توزيع في الدخل لمصلحة المكتتبين في سندات الخزينة، والتي تشكل المصارف اللبنانية القسم الأكبر من المكتتبين.
وأما نسبة الرواتب والأجور إلى مجموع الإنفاق الحكومي، فانخفضت من حوالي الـ43% للعام 1993 إلى حوالي 31% في العام 2011، بحسب إحصاءات وزارة المالية، فيما لا تتعدى نسبة الرواتب والأجور لموظفي القطاع العام الـ9% من الناتج المحلي.
إن الإصلاح الإداري وتفعيل الإدارة العامة يتطلبان في الدرجة الأولى إنصاف الموظفين في القطاع العام، فمحاسبتهم.
أما حول مصادر التمويل فهي كثيرة ومتعددة، خاصة أن العبء الضريبي على الأرباح والمداخيل المرتفعة ما زال متدنياً جداً، على عكس ما تصوره الهيئات الاقتصادية، لا يتعدى الـ4%، بينما يصل إلى حوالي الـ11% في «الجنة الضريبية» قبرص، أي حوالي ثلاثة أضعاف ما هي عليه في لبنان. فباستطاعة لبنان رفع إيراداته الضريبية كثيرا، عبر زيادة نسبة الضريبة التصاعدية على الأرباح التي يصل أقصاها إلى الـ15%، بينما تصل هذه النسبة في الولايات المتحدة الأميركية إلى الـ35%.
إضافة إلى ذلك، إن أفخم الفنادق في الوسط التجاري تحصل على إعفاءات ضريبية كاملة على الداخل والأرباح لعشرات السنوات. والأفظع، أن المعتدين على الأملاك البحرية على كامل الشاطئ اللبناني تصل مساهمتهم الضريبية إلى 0%، وأن تجار العقارات الذين يجنون ملايين الدولارات دون أي إنتاج في المقابل، لا يخضعون لأي ضريبة على الأرباح، والفضيحة الكبرى التي يجب أن تصحح قبل تحويل المشروع إلى المجلس النيابي، أنهم معفيون من الضريبة على القيمة المضافة في موازنة الـ2012، التي يدفعها صغار المكلفين وذوو الدخل المحدود. ناهيك عن التعويضات التي يتلقاها أصحاب الكسارات المشاركون في الحكومة، بملايين الدولارات مكافأة لهم على القضاء على الطبيعة ومواردها من مساحات خضراء وجبال ومياه جوفية التي تميز لبنان في محيطه. الأمر الذي يفتح المجال أمام ضرورة إعادة النظر في النظام الضريبي الذي يفتقر كثيراً إلى معايير العدالة، والذي يمكن أن يعود بإيرادات إضافية كبيرة من المقتدرين وأصحاب الثروات الضخمة والمداخيل المرتفعة، يستطيعون تحملها بسهولة، تخفف من العجز والاستدانة. هنا بيت القصيد، في هذا الهجوم العنيف من قبل الهيئات الاقتصادية على السلسلة، وهنا يأتي دور العمل النقابي الأساسي، بإعادة التوازن إلى موازين القوى الاجتماعي والاقتصادي في لبنان.

أياد علي الخليل

أستاذ جامعي في الاقتصاد
الصفحة الرئيسية
تعريف بالاتحاد
الجمهورية الاسلامية في ايران
المخيم النقابي المقاوم 2013
معرض الصور
ركن المزارعين
موقف الاسبوع
متون نقابية
بيانات
دراسات وابحاث
ارشيف
اخبار متفرقة
مراسيم -قوانين - قرارات
انتخابات نقابية
مقالات صحفية مختارة
صدى النقابات
اخبار عربية ودولية
اتحادات صديقة
تونس
الجزائر
السودان
سوريا
العراق
سجل الزوار معرض الصور
القائمة البريدية البحث
الرئيسة RSS
 
Developed by Hadeel.net