دراسات وابحاث > عن السياسات الاجتماعية أيضاً: خمسة هوامش
عبد الحليم فضل الله لم يكن متوقعاً الحصول على إجابة قاطعة أو موحدة عن سؤال «مؤتمر إصلاح السياسات الاجتماعية في لبنان»: كيف ننتقل من الدعم الانتقائي غير المنظم إلى سياسات اجتماعية تكفل أوسع رعاية ممكنة؟ فالسؤال يضرب على الوتر العميق للمصالح المتضاربة، ويستدرج الأمور إلى مناطق الخلاف التي لا يبتّها المنطق الصرف ولا تبادل الحجج. ومع ذلك بدا الاتفاق ممكناً بشأن أسئلة أخرى تمهيدية وموازية، توفر الإجابة عنها مناخاً أفضل للخوض في السياسات والخيارات. ولنبدأ بالسؤال التقليدي: هل الوقت مناسب لإثقال جدول الإعمال الوطني بقضايا جديدة في ظل ما نواجهه من انقسام داخلي ومخاطر خارجية؟ الجواب: نعم. فالانتظار لن يكون مجانياً هذه المرة، وهناك احتمال أكبر الآن لأن تتحول مشاكلنا الاجتماعية في طرفة عين إلى مأزق سياسي. في السابق تمكنت السلطة من استيعاب الضغط الاجتماعي مستخدمة ما لديها من أدوات احتواء ومراوغة، لكن حراك المنطقة وتوتراتها، أثبت صعوبة فصل المسألة السياسية عن المسألة الاجتماعية، ويزداد الأمر خطورة إذا أحاطت بهذا كله معضلات وطنية وبنيوية متشابكة. سؤال ثانٍ: أليس علينا تصحيح أوضاعنا المالية، واسترداد عافيتنا الاقتصادية أولاً قبل ان نحمّل الاقتصاد والدولة أعباءً إضافية؟ إن تلبية الحاجات الملحة وتحقيق الأهداف الرئيسية لأي سياسة اجتماعية رشيدة (مثل: خفض الفقر، وتقليص التباين بين المناطق وبين الفئات، وتطوير الشبكات الاجتماعية ورفع جودتها وتوسيع نطاق المستفيدين منها..)، لا يتخطّى قدراتنا الحالية وإمكاناتنا المتاحة، في بلد يقول إن 12% من مجموع إنفاق حكومته الجاري مخصصة للتقديمات الاجتماعية والصحية، وإن التحويلات على اختلافها تقتطع أكثر من نصف إنفاقه الأولي. يكفي مثلاً أن نرشد الإنفاق الحكومي وندخل بعض التعديلات الضريبية، حتى نحصل على وفر من شأنه تمويل ثلاثة مشاريع كبيرة لها وقع إيجابي على ميزانية الأسرة: التغطية الصحية الشاملة، مكافحة الفقر ضمن خطة متكاملة للتنمية، وتوسيع نطاق المستفيدين من قروض الإسكان. سؤال ثالث: ألا يُخشى من أن ينعكس الدعم الاجتماعي سلباً على مرونة الاقتصاد؟ مع أن تحقيق قدر معتد به من النمو سيقلل من الصعوبات الاجتماعية المرتبطة بالدخل، وحينئذ تنصرف الحكومة إلى الاهتمام بالباقي. لم تقدم التجارب في لبنان دليلاً واحداً على ترابط النمو بالتنمية والمساواة، وهذا يعود من جهة إلى ضعف الدورة الاقتصادية التي تعمل ضمن نطاق جغرافي وقطاعي ضيق، ويرتبط من جهة أخرى بسياساتنا التي تراعي أوضاع الخزينة العامة عند وضع البرامج الاجتماعية، ولا تفعل العكس إذا تعلق الأمر بالخيارات المالية والنقدية، التي تتعارض غالباً مع مصالح معظم اللبنانيين. فخلال عقد ونصف (1996ـــ 2011) تخطّى النمو الاسمي المتراكم في لبنان 220%، لكن شهدنا في المدة نفسها اتساعاً في الهوة الاجتماعية. صار نصف الأسر المقيمة يحقق إشباعاً متدنياً (حسب دليل الأوضاع الاقتصادية)، ويمثّل الفقراء أو المهددون بالوقوع تحت خط الفقر حوالى 60% من مجموع السكان. وفي غضون عشر سنوات بلغ متوسط النمو العام أكثر من ضعف معدل الزيادة في متوسط الأجور، ما يدل أيضاً على هشاشة المضمون الاجتماعي لخيارات النمو. سؤال آخر: ألا يقدم الأداء السياسي المحبط دليلاً مقنعاً على عقم أي إصلاح لا يتعامل مع اختلالات النظام البنيوية قبل أي شيء آخر؟ هذا صحيح من حيث المبدأ، لكن انتظار قطار الإصلاح الشامل لن يؤدي إلا إلى تضييع مزيد من الفرص المتاحة. لنتذكر أن الشهابية عملت في ظل النسخة الأردأ للنظام نفسه، وأن قوى الضغط نجحت أكثر من مرة في الآونة الأخيرة، في فرض مسائل على طاولة البحث لا تثير اهتمام اللاعبين الأساسيين داخل الطوائف (حقوق اللاجئين الفلسطينيين، أوضاع السجون...)، ولنتذكر أيضاً أن محاولات زيادة الضرائب غير المباشرة في السنوات الأخيرة باءت كلها بالفشل، وأن استراتيجية الخصخصة الشاملة لقيت معارضة قوية، وفشلت في تحقيق هدفها الأساسي، وهو تمكين النافذين من وراثة دور القطاع العام. صحيح أن هذا كان نتيجة للقصور الذاتي ولا يرتبط بأي جهد إصلاحي مدروس، لكنه يدل أيضاً على أن كتل المصالح داخل السلطة وخارجها تتراخى قبضتها تدريجاً ويعتريها شيء من الفتور والوهن. أخيراً، ألا يعدّ التركيز المبالغ به على إعادة التوزيع والعدالة الاجتماعية شكلاً من أشكال الطوباوية التي تخفي أجندة إيديولوجية لا تتلاءم واقتصاد لبنان الحر؟ تؤكد التطورات الأخيرة في المنطقة والعالم أن المساواة في توزيع الثروات والدخول ليست قضية أخلاقية أو إيديولوجية فحسب، بل أيضاً مسألة سياسية تفرض نفسها على الجميع، بمن فيهم البراغماتيون والليبراليون والمشغولون بلعبة تبادل المصالح والمنافع، بمعزل عمّا يحمله هؤلاء وأولئك من آراء وأفكار ووجهات نظر. وها هي منظمات الأمم المتحدة تعترف علانية بالمخاطر الجسيمة المترتبة على تحرير الاقتصاد من دون شروط، وبدأنا نسمع في أروقة المؤسسات الدولية دعوات لإعادة النظر في بعض المبادئ التي تمس صميم الليبرالية الجديدة، كالمطالبة بأن يستعيد القطاع العام وظائفه، وأن تُضبط السوق على نحو يمنع وقوع أزمات اجتماعية وبيئية ومالية. الطريق مفتوح أمام نقاش داخلي أوسع بشأن هذه القضايا. قد لا نستطيع القفز بسرعة نحو الإجماع، وقد لا يكون ذلك مطلوباً أصلاً، لكن الرد على الأسئلة الفرعية والتمهيدية أعلاه يحقق التوافق المطلوب على إعداد موازنة عامة بضوابط اجتماعية واقتصادية ومالية متكافئة، ولا تراعي بالضرورة القاعدة الخاطئة التي سنّها بعض أهل السلطة، وهي أن السياسي الجيد يحصي إيراداته أولاً، ثم يفصّل نفقاته على قياسها...