دراسات وابحاث > 1/2 تصحيح الأجور: أزمة الرأسمالية أم أزمة الرأسماليين في لبنان؟
الوفاء : 26-3-2012
غسان ديبة «في الاقتصاد السياسي لا تواجه الدراسات العلمية المستقلة صنف الأعداء نفسه كما في الحقول العلمية الأخرى» كارل ماركس ذكّر الاقتصادي أوسكار لانجه بقول ماركس هذا، وأضاف «إن المقومات أمام البحث عن الحقائق العلمية تتمثّل في مصالح الطبقات التي تدافع عن مواقعها، وفي التحيّز النابع من هذه المصالح، وفي الكثير من الأحيان تتمثّل بالكسل الفكري المتعلق بالتقاليد والروتين. إن كل هذه العوامل التي تعوق تطور المعرفة هي عوامل تعوق التقدم الاجتماعي أيضاً». وفي هذا الإطار يمكن قراءة ردّ الفعل القوي للهيئات الاقتصادية على مشروع الوزير شربل نحاس، والذي واكبته حملة شعواء تجلّت فيها العوامل التي تحدث عنها لانجه، إذ جُزم بأن زيادة الأجور ستؤدي إلى صرف عشرات الآلاف من العمال وإقفال واسع للمؤسسات، وصولاً إلى التحذير من انهيار اقتصادي شامل وكبير. فهل هذه الادعاءات صحيحة؟ وإذا لم تكن كذلك، فهل هي سلاح للدفاع عن طبقات أم تمثل تحيّزاً غير مبرر ينبع من هذه المصالح أو أسوأ من ذلك تعلّقاً بالتقليد والروتين؟ للإجابة عن هذه الأسئلة سأبدأ بأربع ملاحظات قبل البحث في التأثير الفعلي لزيادة الأجور على الاقتصاد. أولاً، على الهيئات الاقتصادية أن تقرر ما إذا كانت زيادة الأجور ستؤدي إلى زيادة الأسعار أو إلى بطالة وإقفال مؤسسات. ففي بدايات الحملة كان التركيز على أن زيادة الأجور ستؤدي إلى زيادة الأسعار وإطلاق موجة من التضخم. والمفارقة أنه إذا صحّت توقعاتهم وازدادت الأسعار بنسبة زيادة الأجور نفسها، فإن الأجر الحقيقي سيبقى ثابتاً، وبالتالي تكون المفاعيل السلبية المفترضة قد امتصّت عبر زيادة الأسعار، ولن تؤثر زيادة الأجور على البطالة، لأن الأرباح لن تتأثر في هذه الحالة، لأنها فقط تتأثر عند زيادة الأجور الاسمية بنسبة أعلى من الأسعار. فإذاً، إذا استبعدنا الاحتمال الضئيل أن تكون الهيئات الاقتصادية تعتقد بالنظرية البائدة التي عُرفت بتفسير تاتشر لنظرية فريدمان عن التضخم، وهي تقول إن التضخم يؤدي إلى البطالة، فإن التنقّل السريع بين عنوانين متناقضين يضع علامات استفهام كبيرة على صدقية مواقف هذه الهيئات. ثانياً، ليس صحيحاً كما يشاع أن الوزير شربل نحاس أراد بهذا المشروع أن يحمّل القطاعات الاقتصادية وزر تصحيح الأجور ووزر أخطاء السياسات الاقتصادية التي أضرّت بهذه القطاعات على مدى العشرين سنة الماضية. فالمتتبّع للأمور يعلم أنه منذ التقرير الأول للجنة المؤشر كانت المقاربة تعتمد على ثلاثة محاور؛ أولاً تصحيح الأجر بنسب منخفضة، وهذا كان سيحمّل هذه القطاعات أعباءً قليلة جداً حتى مقارنة بالقرارات التي وافقت عليها الهيئات الاقتصادية. والمحور الثاني كان إدخال مفهوم الأجر الاجتماعي إلى عملية التصحيح وأساسه التغطية الصحية الشاملة المموّلة من الضرائب على الريع. وهذه الخطة ستؤدي إلى رفع كلفة الصحة عن الاقتصاد الخاص وزيادة إنتاجية العمال، إضافة إلى تحرير جزء من الأجر نحو الاستهلاك. أما المحور الثالث فهو رزمة الاستثمارات العامة من كهرباء ونقل تؤدي إلى خفض كلفة الطاقة للمؤسسات الإنتاجية وتخفض كلفة النقل. هذا إضافة إلى أن نفقات الاستثمارات العامة من قبل الدولة تصبح في المحصّلة أرباحاً للقطاع الخاص. وقد بيّنت محاكاة كمّية لهذا المشروع أنه سيؤدي إلى زيادة النمو وخفض البطالة والهجرة. والقاصي والداني يعلم أن الوزير شربل نحاس حاول جاهداً إقناع الهيئات الاقتصادية بهذه الطروحات، على الرغم من انتقادات البعض من النقابات وغيرها لها، لأنها لا تعتمد فقط على مبدأ زيادة الأجور النقدية. ثالثاً، إن المشروع الأخير جاء بعد استنزاف فرص المشروع المتكامل، وبالتالي كان لا بد من تصحيح أمرين، إذا كان المشروع سيقتصر فقط على الأجور النقدية. الأمر الأول هو إلغاء ازدواجية الأجر النقدي بين الأجر وبدلات النقل وتحديث مفهوم الأجر بحيث لا يتضمن دفعات نقدية مباشرة من صاحب العمل خارج الأجر النقدي نفسه. وثانياً، كان لا بد من إنصاف الأجور المتوسطة التي فقدت قيمتها الحقيقية منذ عام 1996 حتى الآن بدرجة أكثر من الحد الأدنى. وبالتالي أتى هذا المشروع ليعطي هذه الأجور تصحيحاً أكبر من جميع المشاريع المقدمة سابقاً. رابعاً، لا بد من الإشارة إلى أن أي تصحيح فعلي للأجور يجب أن يأخذ معدل التضخم المتراكم منذ عام 1996 حتى الآن (100%) ناقص تصحيح عام 2008 (16% للأجر الوسطي آنذاك)، لأن هذا هو الحاصل الذي فقدت بنسبته الأجور قيمتها الحقيقية. ويجب ألا يطلب أحد من العمال التضحية بهذا الحق من أجل المصالح العليا، لأن انخفاض الأجور الفعلية في هذه الفترة لم يذهب لتحقيق أهداف اقتصادية وطنية، بل ذهب إلى تعظيم حصة الأرباح والريوع والفوائد من الناتج المحلي على حساب حصة الأجور التي انخفضت إلى معدل 25% مقارنة مع 35% عام 1997 و55.50% قبل الحرب الأهلية. وهنا تجدر المقارنة بما حصل في لبنان في هذه الفترة مع ما حصل في النروج بين عامي 1977 و1985 عندما بدأ تزايد إنتاج الغاز والنفط وازداد الإنتاج الصناعي بنسبة 44% ولكن لم تحصل أي زيادة في الأجور الحقيقية للأجراء، وقبلت النقابات العمالية النروجية بهذا على أساس مبدأ التضامن الاجتماعي، إذ إن عائدات النفط والغاز استعملت من أجل أهداف اجتماعية عامة (مثل دفع الدين الخارجي، زيادة المداخيل الزراعية لوقف الهجرة من الريف إلى المدينة وزيادة عمالة الإناث في القطاعات الخدماتية العامة).