غسان ديبة لا شك أن دورات المفاوضات، التي حصلت في الشهرين الماضيين بشأن تصحيح الأجور في لبنان، أثارت العديد من التساؤلات والقضايا حول تأثير زيادة أجور العمال والموظفين في القطاعين الخاص والعام على أمور كثيرة، منها: مالية الدولة والمؤسسات، الاستهلاك والطلب الداخلي، البطالة، وتحسين توزيع الدخل في لبنان، الذي اختلّ اختلالاً كبيراً في السنوات الماضية، لمصلحة الرأسمال، إلا أن الموضوع الذي أثار الجدل الأكبر كان تأثيره في التضخّم وزيادة الأسعار. واستحوذ هذا الموضوع على مخيّلة المواطنين والإعلام، بعد تقارير عدة عن زيادات في الأسعار سبقت التصحيح، الذي لم يحصل بعد. وقد زادت في هواجس المواطنين تصريحات بعض المسؤولين والاقتصاديين وممثلي الهيئات الاقتصادية، الذين كانوا يجزمون بأن زيادة الأجور ستؤدي إلى زيادة موازية ومماثلة بالأسعار، تأكل هذه الزيادة، وبالتالي «ما يُعطى باليمين يؤخذ باليسار»، بل الأسوأ من ذلك هو الترويج أن الاقتصاد سيكون مهدداً بالانهيار تحت ما يسمى حلزونة تضخم الأجور والأسعار. بدايةً، الأجور تمثّل جزءاً من بنية الأكلاف، وأيّ زيادة في الأجور الاسمية ستؤدي إلى ارتفاع هذه الكلفة. إلا أن هذه العلاقة السببية بين الأجور والأكلاف لن تترجم إلى علاقة سببية بين الأجور والأسعار، ومن ثم إلى نسبة زيادة مماثلة على كلفة المعيشة، إلا في ظروف محدودة جداً، ليست حاضرة في الاقتصاد اللبناني اليوم، لكن قبل أن أدخل في هذا الموضوع لا بد من الإشارة إلى السوابق التاريخية لزيادة الأجور في لبنان، منذ زمن التثبيت النقدي والسيطرة على التضخم، أي منذ عام 1993، ولنر ما كان تأثيرها في التضخم، وبالتالي إذا تحسّن وضع الإجراء بعدها أم لا. ففي عام 1994 زيد الحد الأدنى للأجور من 118 الف الى 200 الف ليرة، أي بمقدار 70%، وفي عام 1995 من 200 ألف إلى 250 ألف، أي بمقدار 25%، وفي عام 1996 إلى 300 ألف ليرة، أي بمقدار 20%. وبلغ التضخم 8% و10.5% و9% على التوالي. فقد تحسن الأجر الفعلي (الحد الأدنى) بمقدار 96% بين عامي 1994 و1996، وبالتالي ما أعطي باليمين لم يؤخذ بالشمال، وارتفعت معدلات الاستهلاك في تلك الفترة، وترافقت هذه الزيادات مع أكثر الفترات نمواً في مرحلة ما بعد الحرب. واستطراداً فإن عدم حصول حلزونة تضخم أجور وأسعار في تلك الفترة، على الرغم من هذه الزيادات المتتالية والمتواترة يؤكد أن هذه الديناميّات المحتملة لا تتحقق دائماً، وبالتالي يجب ألا ترفع كفزاعة في كل مرة يجري فيها النقاش بشأن تصحيح الأجور. وهذه الاستنتاجات تنطبق أيضاً على زيادة عام 2008، حيث رُفع الحد الأدنى من 300 ألف ليرة إلى 500 ألف ليرة (66%)، وبلغ التضخم في ذلك العام 10.7% كان أكثر مكوّناته زيادة أسعار الغذاء العالمية في تلك الفترة. كما أن تجربة البلدان التي تعتمد تصحيح الأجور على نحو مؤسساتي بناءً على نسب التضخم، مثل قبرص ولوكسمبورغ وبلجيكا ومالطا، تؤكد على إمكان ربط زيادة الأجور بمؤشرات الأسعار على نحو دوري (لا الحد الأدنى فقط) من دون حصول آثار سلبية على الاقتصاد، بل على العكس من ذلك، فإن هذه الميكانيزمات المركزية تؤدي إلى استقرار في الاقتصاد، بل في بعض الأحيان تؤدي إلى الاستقرار في معدلات التضخم، نتيجة وضع حدود علمية لزيادة الأجور. وإذا عدنا إلى العلاقة السببية بين زيادة الأجور وتأثيرها في أكلاف المعيشة في الاقتصاد الرأسمالي عموماً، وفي لبنان خصوصاً، فقد بيّنت الدراسات أن الكثير من القطاعات الاقتصادية في لبنان تتمتع بدرجة احتكار مرتفعة، وبالتالي فإن زيادة الأجور يمكن امتصاصها عبر خفض درجة الاحتكار، وذلك بإبقاء الأسعار ثابتة أمام ارتفاع الكلفة الحدية الناتجة عن زيادة الأجور، وبالتالي يكون تأثير زيادة الأجور عبر رفع حصة الأجور من القيمة المضافة على حساب الأرباح والأكلاف الأخرى، التي تتأتى منها مداخيل كالريع. أما في القطاعات التي تبلغ التنافسية فيها درجة عالية، وحيث إن زيادة أجور العمال تؤدي إلى زيادة مماثلة في الأكلاف، فإن زيادة الأسعار ستكون موازية لزيادة هذه الأجور. ومن هنا فإن زيادة الأسعار ستكون مركزّة في قطاعات محددة من الاقتصاد، قد تقتصر على جزء من الصناعات المحلية وبعض أسعار الخدمات، مثل الطعام الجاهز وغيره، إضافة إلى التعليم والصحة. وهذه السلع تمثل جزءاً من سلة الاستهلاك التي تبنى عليها حسابات أكلاف المعيشة. الكثير من السلع لن تتأثر بزيادة الأجور، ومنها سلع الكهرباء والاتصالات والنقل والطاقة على أنواعها، التي إما أسعارها ثابتة ومحددة من قبل الدولة، وإما هي تتبع الأسواق العالمية، وإضافة إلى هذه السلع، فإن السلع المستوردة بأكثريتها من وسائل نقل وسلع معمرة وحتى سلع استهلاكية عادية كالثياب والأطعمة لن تتأثر بزيادة الأجور، لأن التأثير في أسعار هذه السلع يكون عبر التأثير في أسعار الجملة في هذه القطاعات، التي لن تتأثر بزيادة الأجور، إضافة إلى ذلك، فإن أسعار السلع الزراعية غير المصنّعة من خضار وفواكه ولحوم لن تزيد بمقدار زيادة الأجور، بسبب عدم زيادة أكلاف العمالة في القطاع الزراعي، بمقدار زيادة الأجور في القطاعات النظامية، إذ يعتمد هذا القطاع على العمالة الموسمية وغير النظامية. نستطيع الاستنتاج بأن زيادة الأسعار ستطاول أقل من 50% من سلة الاستهلاك، وأكثرها ستكون زيادات أقل من نسبة زيادة الحد الأدنى للأجور، أو الأجور المخفوضة. إذاً بالمحصّلة العامة، فإن زيادة الأجور في لبنان حالياً لن تؤدي لا إلى دورة تضخم أسعار وأجور، ولا إلى بقاء العمال والموظفين في وضعيتهم السابقة نفسها، إذ إن أكثريتهم سوف تتحسن أوضاعهم المعيشية، وستتحسن حصة الأجور من الناتج المحلي. اقتصاد