غسان ديبة إن تصحيح الأجور كأي إجراء أو حدث اقتصادي سيؤدي إلى تقسيم المجتمع بين رابحين وخاسرين. فقد رأينا في الجزء الأول من هذه المقالة أن العمال والموظفين الذين يتقاضون الحد الأدنى وذوي الأجور المنخفضة سيرتفع أجرهم الحقيقي وسيتحسن مستوى معيشتهم بسبب عدم زيادة كلفة المعيشة بنسبة الزيادة على أجورهم. أما الموظفون من ذوي الأجور المتوسطة والعالية نسبياً، والذين لن تلحقهم زيادات عالية على الأجر في أي من المقترحات الحالية، فسيجدون أنهم إمّا راوحوا مكانهم اقتصادياً أو تراجعوا نسبة إلى الأجراء ذوي الأجور المنخفضة أو نسبة إلى الرأسماليين الذين سيحصلون على زيادة في دخلهم الاسمي نتيجة زيادة الأسعار من دون تحويلها إلى هذه الفئة من الأجراء (وهذا ينطبق أيضاً على مداخيل الريع التي ستبقى ثابتة في ظل ارتفاع الأسعار وعدم ارتفاع الفوائد). كما أن الأجراء غير النظاميين والعاملين لحسابهم (وهم يؤلفون أكثر من نصف القوى العاملة في لبنان) سيجدون أنهم تراجعوا اقتصادياً في ظل زيادة كلفة المعيشة. ومن هذه الفئات الثلاث فئتان يجب العمل على رفع دخلهما الحقيقي ونسبة اقتطاعهما من الناتج المحلي، وهما فئتا الأجراء الآنفي الذكر، أما الفئة الثالثة، وهم الريعيون، فيجب الدفع أكثر باتجاه إفقادهم موقعهم المتقدم الذي يحتلونه في الاقتصاد اللبناني. ولتحقيق هذه الأهداف يجب العمل على ثلاثة محاور أساسية: أولاً، تصحيح الأجور بنسب تتماثل مع نسب التضخم من دون التشطير العشوائي الذي يؤدي إلى عدم رفع الأجور المتوسطة والعالية بما يتناسب مع التضخم. وهذا التقليد أخذ في الآونة الأخيرة منحىً دراماتيكياً بحيث انعكس في زيادات مقطوعة (عام 2008) أو سينعكس بزيادات شبه مقطوعة (في المقترحات حالياً). وإذا أخذنا حقائق تطور الأسعار منذ عام 1996 والتي ارتفعت بنحو 100% تراكمياً، فإن الأجر الوسطي قد تراجع بنحو كبير مما يؤدي إلى تراجع الطبقة المتوسطة التي تعتمد على الوظيفة الإدارية والتعليمية وغيرها باستمرار. فمبدأ ربط زيادة الأجور بمؤشر الأسعار المنوط به عمل لجنة المؤشر حالياً لا يقتصر قانونياً ولا اقتصادياً على الحد الأدنى للأجر، إذ يصبح عندها تصحيح الأجور عملية تثبيت للحد الأدنى ـــ Plus، وهذا يقترب إلى حد كبير من موقف الهيئات الاقتصادية القائل بأن دور الدولة يقتصر على تحديد الحد الأدنى فقط. أما المحور الثاني فهو تعزيز مفهوم الأجر الاجتماعي وتطبيقه كمكمّل للأجر النقدي الذي يتقاضاه العمال والموظفون نتيجة نشاطهم في الاقتصاد الخاص. فالأجر الاجتماعي الذي يتكوّن من تقديمات التعليم والصحة والسلع العامة والنقل العام والسلع ذات الطابع الثقافي، يرتدي أهمية خاصة في الاقتصاد اللبناني بسبب بنيته الحالية التي تعتمد على تصدير العمالة واستيراد تحويلاتهم الريعية بالإضافة إلى الحاجة إلى تدفق رأس المال الخارجي من أجل تمويل ميزان المدفوعات. فهذا النمط الاقتصادي أدى إلى زيادة أسعار السلع غير القابلة للتبادل نسبة إلى أسعار السلع القابلة للتبادل مؤدياً إلى تراجع تنافسية الاقتصاد اللبناني وارتفاع أكلاف المعيشة وأسعار الأصول مثل العقارات. وكل هذا يجعل الأجر النقدي للأجراء النظاميين وغير النظاميين غير كاف لتلبية احتياجات الاستهلاك والادخار وتكاليف الصحة والتعليم والنقل والسكن، خصوصاً أنه لا يمكن زيادة الأجر النقدي إلى الحد الذي يتكفّل بهذه التكاليف من دون القضاء نهائياً على قطاع التصدير. ومن هنا فإن تكفّل الدولة بتأمين الأجر الاجتماعي يصبح حاجة اقتصادية وليس فقط حاجة اجتماعية، وتمويل هذا الأجر من الضرائب على الريوع المحلية من فوائد وربح عقاري والريوع المتأتية من تحويلات المغتربين عبر وضع نظام ضرائبي يطاول اللبنانيين الذين يعملون في الخارج، وأكثرهم في بلدان تتمتع بالجنّة الضرائبية. وهنا يأتي دور مشروع الوزير شربل نحاس الذي ربط تصحيح الأجور بتأمين التغطية الصحية الشاملة لجميع اللبنانيين المقيمين، ليلعب دوراً حاسماً في إطار تثبيت أجر اجتماعي مكمّل للأجر النقدي يستعمل أو يستغل البنية الاقتصادية الحالية ويعمل في الوقت نفسه على الدفع باتجاه تغيير هذه البنية باتجاه اقتصاد منتج وديناميكي يتيح تدريجياً استنباط توليفة ضرائبية مستقبلية تقتطع من الفائض الاقتصادي من أجل إعادة التوزيع وتثبيت ثنائية الأجر النقدي ـــ الأجر الاجتماعي. والمحور الثالث، والذي يرتبط جزئياً بالمحور الثاني، هو استعمال النظام الضريبي أداة لإعادة التوزيع والدفع باتجاه تهميش الريع وحصته من الناتج المحلي. فزيادة الأجور بسبب تأثيرها جزئياً كما رأينا على الأسعار وفي بعض القطاعات على تنافسية القطاع التصديري، لا يمكن أن تكون الأداة الوحيدة لإعادة توزيع الدخل وتصحيح النمط الاقتصادي. ويشكل النظام الضرائبي الحالي الذي يطاول الريع عرضاً أو بنحو غير مباشر ولا يستغل وجود الخزان الهائل للثروة الريعية من فوائد وأرباح عقارية وتحويلات مغتربين أرضاً خصبة للتغيير بهذا الاتجاه. وهذا التغيّر لن يؤدي إلى حصول أي زيادة في الأسعار بل يصححها في بعض القطاعات، مثل العقارات، وسيحدث خرقاً جديداً في الاقتصاد السياسي لتوزيع الدخل في لبنان وإعادة توزيعه.