دراسات وابحاث > نظام التقاعد والحماية الاجتماعيةعلى نار حامية منذ أكثر من 10 سنوات!
تاريخ النشر 7-3-2012 حسن الحاف
نظام التقاعد والحماية الاجتماعية المطروح اليوم على طاولة اللجنة الفرعية المنبثقة من اللجان النيابية المشتركة ليس بلا تاريخ. ويمكن الذهاب بعيداً في الاستنتاج أن تاريخ المماطلة في دراسته، فضلاً عن العراقيل التي فرشت في طريقه تكاد تختزل تاريخ التباعد المتمادي الذي حكم العلاقة ما بين الدولة والمجتمع في لبنان، منذ تأسيس الكيان في العشرينيّات من القرن الماضي. وهو تباعد كان أطل برأسه منذ ما قبل اندلاع الحرب الأهلية، مهيّئاً الأرضية الموضوعية لانفجارها المديد. ثم عاد ليتكرّس في العقدين ونيّف، اللذين أعقبا توقيع اتفاق الطائف، بفعل تبني سياسات اقتصادية واجتماعية أخذت من التجارب العالمية أسوأ ما فيها. ومذ ذاك بدأت انعكاسات الحرب تتجلى مادياً في صورة تراجع جوهري في دور الدولة الاجتماعي، بفعل الانهيار العام الذي لم يترك ستراً مغطّى إلا وكشفه. في عام 2001، زار رئيس اللجنة الفنية للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي رفيق سلامة (لاحقاً صار عضو مجلس إدارة الضمان) رئيس الحكومة رفيق الحريري وزوده بنسخة من مشروع كان أعده تحت عنوان: مشروع نظام التقاعد والحماية الاجتماعية (وهو المشروع عينه الذي طرحه تكتل التغيير والإصلاح عام 2006 والمنقول حرفياً عن مشروع سلامة، على حد قول الأخير لـ«السفير»). وقد وافق عليه الحريري فوراً بعدما أقنعه سلامة بأن المشروع في حال إقراره سيعيد للدولة الجامعة بعضاً من دورها وهيبتها الغائبين كلياً في نظر مجتمعها. والأخير كان فقد ثقته بها تماماً منذ زمن، مؤثراً الارتداد العام عن المشتركات القليلة التي راكمها قبل الحرب، ومسلّماً بتبعية الدولة المطلقة للقوى الطائفية المهيمنة، وللعائلات والزعامات والأحزاب المسيطرة داخل كل طائفة على حدة. مهما يكن من أمر، أحيل المشروع إلى الحكومة اثر قراءته بتمعن (وبعد دراسته أيضاً في المجلس الاقتصادي الاجتماعي). ولاحقاً، تبلور التوافق عليه، بعد دراسته في مجلس الوزراء. فصدر قرار الحكومة بإحالته إلى اللجان النيابية في 2004. وأشبع درساً من جديد في اللجان النيابية المختصة، وأدخلت تعديلات عليه، تتفق مع رؤية كل أطراف الإنتاج. بيد أن الفترة الزمنية الفاصلة ما بين وصول المشروع إلى مجلس النواب، ومن ثم طرحه على الهيئة العامة للمجلس استغرقت ما يقارب الأربع سنوات. إذ لم يطرح المشروع على الهيئة العامة للمجلس سوى في عام 2008. وإذ ذاك ارتأى رئيس مجلس النواب نبيه بري، غداة تلقيه اعتراضات من قبل فريقي العمال وأصحاب العمال، ردّه مجدداً إلى اللجان النيابية المشتركة لمعاودة درسه من جديد. ليتبيّن لاحقاً أن الملاحظات في غالبيّتها بلا طعمة، وغير ذات موضوع. وأنه كان من الأجدى إقراره أولاً ومن ثم العمل على تعديل بعض أحكامه. كما تبيّن، بحسب بعض الخبراء المطلعين على حيثيات الموضوع، أنها لا تستهدف تطوير المشروع او معالجة نقاط الخلل والضعف فيه، إنما هدفها الأساس إرجاء الإقرار الفوري للمشروع، وتالياً إعادته إلى اللجان، علّه يُقبر فيها، ولا تعود له قومة من بعدها. فما يفيد الشرائح الأضعف في المجتمع، لا الممسكين برقابها، لا لزوم له.
توصيات حرب بعد ردّه
آنذاك، أي في عام 2008، كان وزير العمل بطرس حرب. وقرر حرب اثر اطلاعه على نص المشروع معاودة طرحه على طاولة النقاش مع ممثلي الهيئات النقابية والعمالية فضلاً عن أصحاب العمل. واستمرت المداولات لحوالى 4 الى 5 أشهر من دون أن تسفر عن شيء، على ما يقول سلامة لـ«السفير». وبعدما انتهت أصدر حرب في 2011 نصاً اتخذ له عنوان: «أساس مشروع نظام التقاعد والحماية الاجتماعية بحسب توافق منظمة العمل الدولية والبنك الدولي». ولخص النص استمرار التباين الحاد بين الأطراف حول عدد من النقاط أهمها: أولاً، عدم التمكن من التوفيق ما بين نظام الاشتراكات المحددة، وإمكانية تقديم ضمانة واضحة للعمال بالنسبة للراتب التقاعدي نظراً لما يتطلبه ذلك من تحديات تطال سياسة استثمار الأموال المتراكمة في الصندوق. ثانياً، عدم التمكن من إيجاد صيغة مقبولة للحوكمة وإدارة الاستثمارات، ولا سيما لجهة آلية تأمين الضمانة المطلوبة من قبل العمال. ثالثاً، عدم التوصل الى رؤية واضحة لكلفة الضمانة المطلوبة والجهة التي ستؤمنها، إضافة الى سقف الرواتب المعقول، الذي يمكن تحديده أساساً لاحتساب الاشتراكات والراتب التقاعدي. رابعاً، تحديد مستوى الحد الأدنى للمعاش. خامساً، كلفة تأمين الطبابة للمتقاعدين، والجدوى من دمج هذه المنفعة مع منافع التقاعد العادية. عليه، طلب حرب من كل من منظمة العمل الدولية والبنك الدولي تقديم اقتراحات حول المشروع بعد دراسته ومراجعته بطبيعة الحال. وهكذا كان. وجاءت خلاصة العمل مع كل الأطراف في صيغة توصيات أبرزها: إعادة صياغة مشروع القانون وفق الأسس المحددة من قبل منظمة العمل الدولية والبنك الدولي، فضلاً عن فصل التأمين الطبي للمتقاعدين عن النظام التقاعدي وإعادة النظر فيه من خلال نظام الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي في ما يتعلق بالمرض والأمومة. هذا إضافة الى تحديد العناصر الأساسية للنظام التقاعدي من خلال دراسة اكتوارية، يقوم بها ويتبناها وتنفذها منظمة العمل الدولية والبنك الدولي مشتركين. ومن اهم هذه العناصر: - قيمة الحد الأدنى للعائد الحقيقي والثابت مع إمكان إعادة النظر بهذه القيمة من فترة لأخرى، شرط ان لا يقل العائد الحقيقي عن نسبة 2 في المئة سنوياً. - نسبة الاشتراكات وآلية إعادة النظر بها. السقوف المعتمدة للمعاشات الخاضعة للنظام، ومدة ارتباطها بالحد الأدنى للأجور، أو بمتوسطات الأجور. - قيمة الحد الأدنى للمعاش التقاعدي وآلية إعادة تقييمه ومدى ارتباطه بالحد الأدنى للأجور أو بمتوسّطات الأجور أو بأسعار الاستهلاك. - موجبات الدولة اللبنانية في حال حصول خلل مادي أو اقتصادي. واقترحت التوصيات لضمان حسن التنفيذ إنشاء هيئة تأسيسية لنظام وصندوق التقاعد، بحيث يقوم مجلس الوزراء بتعيين هذه اللجنة فور صدور القانون العتيد، على ان تكون الهيئة مسؤولة عن أعمالها أمامه. الهيئة التأسيسية المقترحة تشكّل بنظر بعض المتابعين الجديين لمسار المشروع مركز الخلاف ومحوره. ففي حين يتفق غالبية الأفرقاء على ضرورة ان تكون مستقلة عن الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، حتى لا تتسلل مشاكله المزمنة إليها، يرى بعض آخر ان المرجعية السياسية والطائفية للهيئة، غير المنصوص عليها في نظام عمل المشروع بطبيعة الحال، قد تشكّل عقبة من شأنها إنهاء البحث في المشروع بالضربة القاضية.
من جديد على طاولة اللجان
في هذه الغضون، أي في عام 2011 عاودت اللجان النيابية دراسة المشروع. وقد تسارعت وتيرتها في الفصل الأخير من العام، حيث شرع أعضاء اللجان وممثلو العمال وأصحاب العمل بدراسة المشروع مادة مادة وبنداً بنداً. أمام هذه الجدية المستجدة، وتداركاً لإضاعة الوقت من جديد في تفاصيل وعِقد لا تني تطل برأسها، كلما ذللت عقدة وتفصيل، طرح عضو مجلس ادارة الضمان والمشارك في اجتماعات اللجان النيابية المشتركة رفيق سلامة دراسته حول مشروع قانون التقاعد والحماية الاجتماعية (المنشورة في «السفير» في جزأين بتاريخ 2012/2/22 و2012/2/25). وقدم سلامة فيها بعض التوضيحات والتصحيحات اللازمة مستفيداً من ملاحظات خبراء البنك الدولي ومن نتائج التجارب الحديثة والعثرات التي مرّت بها أو عرفتها معظم أنظمة التقاعد في عدد من البلدان. كما عرض بعض الاقتراحات التي من شأنها تقوية المشروع وزيادة حظوظ نجاحه، على ما ورد حرفياً في نص الدراسة. وإذ يعتبر سلامة ان اقتراحات التعديلات التي عرضها تشكل ورقة العمل المرجعية التي ستستند إليها كل النقاشات اللاحقة في اللجان النيابية حول المشروع، بما يسهّل عمل أعضاء اللجنة، يشدّد على أن لا خلاف فعلياً في الوقت الحاضر بين أصحاب العمل والعمال. ويشير إلى أن غياب الاعتراضات على أسس المشروع، لا تلغي ضرورة تعديل بعض النقاط بما يبدّد مسبقاً بعض الشوائب التي قد تشوب عملية تطبيق مشروع بهذا التعقيد. وعن ما يهمسه البعض حول الخلاف على المرجعية السياسية للهيئة التأسيسية، يقول سلامة «ثمة ملاحظات تتناول المؤسسة الجديدة التي من المفترض إنشاؤها لادارة النظام الجديد الشديد التعقيد في تركيبته ودوره في آن. بيد ان ذلك لا يعني، بحال من الأحوال، ان السياسة يجب ان تدخل في تكوين وتركيب هذه الهيئة. ففي ذلك مقتل لا للهيئة فحسب، إنما للمشروع برمته». ويضيف «يجب البحث في كيفية تأمين التوازن المالي للنظام الجديد خلال العقود المقبلة. وذلك لا يكون إلا من خلال إدارة عصرية وحديثة تعتمد المكننة والتقنيات الحديثة وتخضع للمساءلة والمحاسبة الصريحين». واذ يؤكد ان أصحاب العمل يريدون إدارة مستقلة عن صندوق الضمان، يضيف «ان النظام الجديد سيفسح في المجال أمام كل العاملين في لبنان للانتساب اختيارياً اليه، فضلاً عن المنتسبين إليه إجبارياً، ما يعني ان ضخامة حجمه ودوره لا تحتمل زجه في المناكفات السياسية، التي ستدمّره حكماً».
«العمالي»: الهيئة ضمن «الضمان»
الاتحاد العمالي العام الذي اعترض عام 2008 على إحالة مشروع قانون التقاعد والحماية الاجتماعية الى المجلس النيابي نظراً لتغييبه عن النقاشات التي دارت حوله، اعتبر أن المشروع المحال وقتها «مخيّب لآمال العمال وحقهم في حياة مستقرة وكريمة بعد نهاية الخدمة وبلوغهم سن التقاعد». ويرى رئيس الاتحاد العمالي العام غسان غصن لـ«السفير» ان على الهيئة المستقلة التي ستتولى إدارة النظام الجديد ان تراعي ثلاث ثوابت. أولاً، أن يدار النظام من أطراف الإنتاج الثلاثة، ثانياً، ان يكون كل النظام تحت إدارة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. وثالثاً، تحديد موجبات الدولة إزاء المشروع، لا سيما لناحية ضمان استمراريته. ويضيف «نظام الضمان كما هو قائم اليوم يقوم على 3 صناديق مستقلة. وهو ما يؤكد على استقلالية النظام. أمّا الأفكار المطروحة فتتصل بموضوع إدارة النظام الجديد، بمعنى أن يكون لكل صندوق إدارة مستقلة، ما يؤدي الى انتفاء الرابط بينهم وبين «الضمان». وهو أمر غير معقول ويفضي عملياً الى إلغاء الأهمية المعقودة على «الضمان» وعلى استمراريته». وإذ يتحفظ على اعتبار سلامة ورقته مرجعية ودليلاً مرشداً لكل النقاشات اللاحقة التي ستدور في اللجان النيابية المشتركة، يشير إلى ان ورقة سلامة مستقلة وخاصة به، ولدى الاتحاد ورقته ودراسته التي تتضمن ملاحظاته ذات الصلة بتعديل بعض أحكام قانون الضمان الاجتماعي، وبإنشاء «نظام التقاعد والحماية الاجتماعية». أمّا أبرز ملاحظات الضمان حول مشروع القانون المطروح اليوم في اللجان النيابية فهي: أولاً، الغموض الذي يلف غالبية الأحكام والقواعد. ثانياً، ترك مواضيع أساسية تشكّل عناصر هامة في بنية النظام من دون معالجة على ان تعالج لاحقاً من طريق مراسيم تصدر في مجلس الوزراء (مثال تحديد معادلة التحويل على أساس المعطيات الإحصائية المتوافرة وذلك بموجب مرسوم.. علماً أن القوانين كافة في الدول التي تعتمد أنظمة مشابهة كفرنسا ومصر وسوريا تتضمن احكاماً تفصل وتحدد أسس احتساب المعاش. ثالثاً، تجاوز عدد المراسيم التي ستصدر لاحقاً العشرين مرسوماً، تتناول العديد من المواضيع التي يشكل بعضها ركناً أساسياً في بناء هذا النظام. رابعاً، افتقار المشروع الى الدراسات الاكتوارية والإحصائية (مقارنة بالنتائج السلبية لاعتماد نظام الضمان الاختياري). خامساً، تعدد الأنظمة التي ترعى شؤون التقاعد واختلاف الأحكام والقواعد التي تنظمها. سادساً، ربط التقديمات بالاشتراكات (والمشاكل التي سيطرحها هذا التدبير عندما يمتنع صاحب العمل عن تأدية الاشتراكات طوعاً او لأسباب خارجة عن إرادته)، علماً أن قانون الضمان الحالي لا يربط التقديمات بالاشتراكات. سابعاً، إهمال موضوع الحقوق المكتسبة، حالتي التصفية بسبب الوفاة أو العجز مع عدم توفر مدة الاشتراك التي تعطي الحق بالمعاش. ثامناً، إضافة أعباء مالية كبيرة نتيجة للتنظيم الإداري المقترح والذي يعمد إلى خلق أجهزة جديدة وتعديل الوضع القانوني للجهاز القائم. تاسعاً، إدخال مرجع جديد ضمن آلية عمل النظام بحيث يجب أن يتقدم باقتراح المراسيم وزيرا العمل والمالية مجتمعين في العديد من المسائل. عاشراً، اتسام العبارات التي تناولت موضوع الإدارة المالية بالكثير من انعدام الدقة والوضوح، واللجوء في أغلب الأحيان إلى استعمال تعابير إنشائية.