بعد 8 سنواتٍ على عملية تبادل الأسرى، عاد رفات الشهيد التونسي عمران بن الكيلاني المقدمي إلى مسقط رأسه قفصة. هذا التأخير في تسليمه يعود إلى قرار الرئاسة التونسية السابقة إبقاءه حيث هو خوفاً من الاحتفاء به
كتبت راجانا حمية في جريدة الاخبار بتاريخ 12-4-2012
كان كلّ شيءٍ جاهزاً يومها: صور الشهيد. الكفن الأبيض. والحفرة التي كان سيأوي إليها جسده. في كانون الثاني 2004، عندما كان «حزب الله» يتسلّم الأسرى وبعض الشهداء من إسرائيل، كانت خالصة المقدمي، والدة الشهيد عمران بن الكيلاني المقدمي، تحضّر تلك الأغراض. «تحفر» بيت ابنها الذي ستبكي إليه، وتنشر صوره في زوايا الدار في قفصة التونسية، المفتوحة أبوابه لاستقبال المهنئين بالعائد من لجوئه القسري في لبنان.
كانت الأم تعرف أنها لن ترى تفاصيل وجه ابنها «الأسمراني»، فالستة عشر عاماً التي مرّت على الغياب كفيلة بمحوها، لكنها كانت ستسند قلبها بمكانٍ حقيقي فيه شيء من ابنها. تحكي إليه القصص التي حدثت في غيابه. فاستقدام الرفات «يخفّف من اللوعة»، هكذا قالت عندما سألوها عن أمنيتها ذات يومٍ، عقب استشهاد ابنها، قائد عملية «أبو جهاد» في «جبل دوف» (إصبع الجليل) على مقربة من مزارع شبعاً في 26 نيسان 1988. كان الحلم على مقاس تلك الأم المفجوعة، والمتلهفة لرؤية أي شيء من الغائب كل تلك السنوات في أرض غريبة، لكن لم تعرف يومها أنه يعوزها ثماني سنواتٍ أخرى للقاء. ففي اللحظة التي انتهت فيها تحضيرات العائلة، جاء الخبر من الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي، بأن عمران سيدفن من دون صخب، وإلا فليبق حيث هو. كان القرار الرئاسي حاسماً، وخصوصاً أن العملية التي قام بها المقدمي، كانت «ثأرية لاغتيال أبو جهاد الوزير في تونس»، يقول مسؤول الاتحاد التونسي للشغل قاسم عسيت. رفضت العائلة القرار، فالشهيد يليق به الاحتفال لأنه شهيد ... وأعزب. بقيت على رفضها، فبقي هو في مدفن الشهداء في لبنان، إلى جانب كثيرين ينتظرون العودة إلى الديار. يومها، عاد الحزن أكبر. كأن عمران استشهد للتو. فالصدمة كانت أكبر من لحظة رأت والدته موته على شاشة التلفاز، وهي التي لم تكن تعرف أنه كان مشاركاً في تلك العملية. يومها، قالت «مساكين، ويش حال أمّاتن». وعندما علمت، بكت بـ«فحش» على الولد الذي قصد سوريا للتخصص في علم النفس، فعاد إليها ببطاقة انتسابٍ لـ«الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين»، وقصاصة ورقٍ كتبها للأم الحبيبة، طالباً إليها «ألّا تحزني ولا تلبسي السواد يوم عرسي وزغردي وكبّري وانثري الورود في الدروب التي سلكناها واحفظي عني أحلى الذكريات، فأنا ما فتئت أتذكرك أماً جميلة، وأطلب رضاك للأبد ولا أقول الوداع، بل في فلسطين اللقاء». بكت «كوشة»، كما يقول ابنها رشيد، لأن «صورة الشهادة لم تكن بوضوح الشهادة اليوم، في حينها كانوا الناس يعزونها، لا كما اليوم يباركون بالشهادة». أعادت فتح خزانته التي احتفظت له فيها بسراويله و«التريكو» (كنزات الصوف)، وحملت الوصية باكية. تقرأها مراراً علّها تطمئن، لكن لا حيلة لها إلا البكاء «فإذلال زين العابدين بن علي لها لم يترك لها مجالاً للاطمئنان»، يقول رشيد. بقيت على تلك الحال سنوات، كانت خلالها تنتظر الصباحات علّها تأتيها بخبرٍ آخر يعيد إليها الابن. انتظرت ثماني سنواتٍ. شحّ خلالها النظر، وتغير لون خصلات الشعر الناتئة من تحت المنديل، قبل أن يأتيها خبر الثورة التونسية على النظام. عندها استبشرت خيراً بعودة ما بقي من الابن بعد كل تلك السنوات. انتهت الثورة برحيل بن علي، فبدأت الاتصالات لاستجلاب الرفات. هكذا، نسّق الاتحاد التونسي للشغل، مع اتّحاد الوفاء للنقابات اللبنانية والجمعية اللبنانية للأسرى والمحررين، بعد التنسيق مع السلطة التونسية الجديدة «التي عبّرت عن تجاوب كبير، حتى في قضية الإجراءات الإدارية»، يقول عسيت، رئيس الاتحاد. انتهت الاتصالات «على خبر العودة»، يتابع. عادت الأم لتحضيراتها، لكن هذه المرة «بفرح وفخر»، تقول. لأن العائد «سيزفّ»، تتابع. لكن، ثمة سبب آخر لهذا الفخر، وهو أن الشهيد «سيدفن في مسقط رأسه الذي منع عنه سنين طويلة»، يقول رشيد، الشقيق الذي يصغر الشهيد بعشر سنوات. أسباب الفرح كثيرة، وقد تفوق العودة إلى الديار أهمية، وهي «استجلاب الرفات في نيسان»، حسب ما يشير عسيت. فلنيسان دلالتان، أولاهما أنه «استشهد فيه عام 1988، وأنه شهر عيد الشهداء». هكذا، برمجت العائلة والاتحاد عودة الرفات في الثامن من الجاري، لأن من المفترض أن «يكون الوفد في لبنان لمناسبة انعقاد الدورة الـ 39 لمنظمة العمل العربي». نقلت الدورة إلى مصر، وبقيت وجهة السير إلى لبنان «لدفن الشهيد في التاسع من نيسان، يوم عيد الشهداء، كردّ اعتبارٍ له»، يقول عسيت. وهو ما حصل، حطّ رفات الشهيد في مطار قرطاج في الثامن من الجاري. وهنا، كانت المفارقة. فالصمت الذي كان سيرافق وصوله، لو تم في عام 2004، لا يشبه صخب حضوره الآن ولا يشبه أبداً التمثيل الذي كان الأسبوع الماضي على أرض المطار، حين استقبله العسكريون بتحية تليق بالشهادة، قبل أن تنقله طائرة عسكرية إلى قفصة، حيث الديار. هناك، كانت الأم في الانتظار «والقرية كلها»، يقول رشيد. كانت متلهفة لرؤية الصندوق الخشبي الذي يحضن ابنها، لكن لحظة وصوله ملفوفاً بعلمين فلسطيني وتونسي، انقلب الفرح بكاءً. فالأم لا تعرف المجاملة في مثل هذه المواقف. ثمة فخر، لكن «الألم أكبر»، يقول ابنها. مع ذلك، احتفلت به. نثرت الورد على «الدروب التي سلكها» وكبّرت، كما طالبها في الوصية. لكن، لحظة الفراق كانت مؤلمة، عندما أودعوه الحفرة بلباسه الأبيض. تماماً كما فجعت قلوب أمهات كن ينتظرن «إفراغ» أحبتهن من الأكياس البيضاء التي لُفوا بها يوم عودتهم إلى بيروت في عملية التبادل الأخيرة بين «حزب الله» و«إسرائيل» في تموز من العام 2008. عند الحفرة، تذكرت «ابتسامته عندما كنت أقول له تزوج يا ابني وجيب 5 صبيان»، تقول، مسترجعة تعليقات أشقائه «بعده صغير». في نظرها هي، هو صغير دائماً، حتى الآن وهو يعود رفاتاً «بعمر 50 عاماً»، لا يزال كما كانت تراه «زغروت. أسمراني. بشوش. هادئ». بكت كثيراً، لكنها لم تفعل كما في عام 2004، فالآن، اطمأنت إلى زاويتها التي ستلجأ إليها للبكاء، فثمة «مكان حقيقي فيه ابني». مكان ستزرع فيه الورود وتسقيها كل يوم. عاد عمران إلى بيته. لكن، هناك في لبنان، في المكان المؤقت حيث كان، تنتظر «بقايا» أخرى غريبة أن تعود. والفارق بينهما أن عمران كان ممنوعاً من العودة بسبب قرار رئيس، أما هؤلاء وغالبيتهم من دفعة التبادل الأخيرة فمجرد أرقام يصعب على الفحص النووي «فرزها» حتى الآن.
عام 2004، جرت عملية تبادل بين حزب الله وإسرائيل، عبر وساطة ألمانية، تسلّم بموجبها «حزب الله» رفات 59 لبنانياً و24 من جنسيات أخرى. كما أطلق سراح 400 أسير فلسطيني و23 لبنانياً (بينهم الشيخ عبد الكريم عبيد والحاج مصطفى الديراني) و5 سوريين و3 مغربيين و3 سودانيين وليبي واحد والمواطن الألماني ستيفان مارك الذي اتهمته إسرائيل بالانتماء لـ«حزب الله». كل هؤلاء، مقابل رفات 3 جنود إسرائيليين وضابط الاحتياط إلحنان تننباوم. وكان من بين الشهداء، رفات الشهيد التونسي عمران المقدمي الذي استشهد عام 1988 في عملية ثأرية لاغتيال أبو جهاد الوزير. قبل 3 أعوام من الشهادة، غادر المقدمي إلى جامعة دمشق للتخصص في علم النفس. تأثر بأبناء جيله، وهو المتأثر سابقاً بوالده الذي ناضل ضد الاستعمار الفرنسي، فالتحق بـ«الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين» ونفذ العملية. ويقول عنه رفاقه إن رحيله إلى سوريا كان سببه أن «للسلاح سحره هناك، ففلسطين على مرمى حجر، وبينها وبين جموع الفدائيين الذين كانوا يتجمعون في لبنان جمحة فرس».