الشركة التركية تخفض الأسعار مقابل إعفاءات ضريبيّة سخيّة
خلال السنوات الثلاث المقبلة ستتمتع شركة تركية محظوظة بخفوضات ضريبية هائلة في لبنان، فقط لكي تؤجّر البلاد الكهرباء. فبعد «قال وقيل» وتأخير ما بعده تأخير، رست التسوية على أن خفض سعر هذا الإيجار يكون على حساب الخزينة. أهلاً وسهلاً «كارادينيز» ـــ بعد 4 أشهر!
حسن شقراني
أنهت اللجنة الوزارية الخاصة «المفاوضة النهائية» مع الشركة الخاصة باستئجار طاقة عبر البواخر، بقدرة تصل إلى 270 ميغاوات، وذلك بعد تعيين لجنة فنيّة لإعداد العقود اللازمة. ونتيجة لهذه العمليّة، أُعدّ تقرير شامل رفعته وزارة الطاقة والمياه، المعنية الأولى بهذا الملف الشائك، إلى مجلس الوزراء ليبحثه في جلسته المقرّرة غداً «بعد الأخذ بملاحظات رئيس مجلس الوزراء» نجيب ميقاتي. الفكرة وراء التفاوض الإضافي كانت خفض الأسعار، وقد حصل ذلك باعتراف القوى السياسية وبعد تشكيل اللجنة المذكورة برئاسة ميقاتي نفسه بناءً على قرار وزاري في تشرين الثاني 2011. لكن خفض الأسعار ليس تماماً ما حدث، وإن كان ظاهر الأمور هكذا، فالعقد المقترح يوضح أن خفض الكلفة جرى عبر المواربة، إذ تحصل الشركة التركية المحظية خلال السنوات الثلاث المقبلة على معاملة تفضيلية في مجالي الرسوم والضرائب، بما يزيد ربما على قيمة خفض السعر.
وقت طويل ودفعة دسمة
يؤكّد تقرير اللجنة اختيار شركة «Karpowership» المسجّلة في جزر مارشال، والتابعة للشركة التركية «كارادينيز» (Karadeniz)، لتُمدّ البلاد بالطاقة الكهربائية عبر باخرتين خلال مرحلة صيانة معملي الإنتاج في الذوق والجية وعلى فترة 3 سنوات «قابلة للتجديد لفترة عامين بناءً على موافقة الطرفين». وينص العقد الذي يُفترض أن الوزراء يدقّقون في تفاصيله حالياً أن أولى الباخرتين تصل إلى لبنان بعد 120 يوماً من حصول الشركة على دفعة نقدية أولى وانطلاق عملية إعداد أماكن السفن، إضافة إلى إطلاق أمر المباشرة بالعمل. أما الثانية فتحتاج إلى 180 يوماً. وهذا يعني أنّه إذا انطلق أمر المباشرة في أوّل تمّوز، تصل أوّل باخرة في تشرين الأوّل 2012، على أن تصل الثانية في بداية كانون الأوّل. أي بعد انتهاء فصل الصيف تماماً! أمّا «الدفعة الأولى»، فهي تساوي 25% من القيمة الأساسية للعقد، أي ما يُعادل 98.158 مليون دولار، على أن يُحسم هذا المبلغ من الدفعات الشهرية التي تنتهي بعد 36 شهراً. فبحسب تفاصيل العقد، ستُحتَسَب الكلفة الإجمالية طبقاً لمعادلة تُعدّ شهرياً تأخذ في الاعتبار كلفة إنتاج الكيلووات ساعة، وعلى اعتبار أن المعدّل الشهري للساعات الذي يُفترض أن تُغطّى يبلغ 730 ساعة. وتبلغ الكلفة الأساسية للعقد 392.635 مليون دولار تُسدّد بأكلاف شهرية وفقاً للمعادلة المذكورة آنفاً، على أن يعمد الطرفان إلى مقاصة عند انتهاء كلّ عام لإجراء حسومات محدّدة إذا تبين أن الإنتاج توقّف بسبب سوء أداء الشركة. ومع إجبار الدولة بدفعة أولى دسمة، تستفيد الشركة خلال الأعوام الثلاثة المقبلة من رصيد يُقارب في البداية 100 مليون دولار. ورغم أنه يتناقص تدريجاً بمعدّل شهري، إلا أنه يوفّر للشركة سيولة تستفيد منها الشركة بالفوائد ربما، فيما يُمكن أن تستفيد الدولة اللبنانية من هذا المبلغ! وإضافة إلى هذه الإفادة عبر مسك هذا المبلغ (والهدف منه ربما الإمساك برقبة الدولة، وربما خوفاً من صدقيتها)، تطلب الشركة إفادات إضافيّة على شكل إعفاءات ضريبيّة؛ إذ يُفيد العقد بأنّ الشركة ستُعفى من الرسوم الجمركيّة على جميع معدّاتها وقطع الغيار الخاصة «وصولاً إلى إعفاء جميع السلع الاستهلاكية الأخرى» التي تحتاج إليها الشركة طبقاً لهذا العقد. وينصّ العقد أيضاً على أنّ «الزبون (الدولة اللبنانية) سيتولّى دفع الضريبة على القيمة المضافة (TVA)»، ما يعني أن الشركة معفاة منها. أمّا الأكثر إثارة للصدمة في هذا الصدد، فهو التركيبة التي يفرضها العقد لاحتساب ضريبة الدخل المحدّدة للشركات إجمالاً بنسبة 15%. فالشركة التركية «الغنّوجة» ستتكلّف 2.25% فقط على فواتير الدفعات الشهرية التي تقبضها من الدولة (أي 15% من نسبة الـ15% الأساسيّة!). إلى ذلك، ينصّ العقد على أنّ الجانب اللبناني سيكون مسؤولاً عن تجهيز المنطقة الخاصة في الخليج، حيث يُفترض أن ترسو السفينتان إضافة إلى تدبير وتخزين وإيصال الفيول الثقيل إلى مركز إنتاج الكهرباء حيث تعمل السفينتان. ويقول تحديداً: سيكون الزبون (الدولة) مسؤولاً عن تخزين الفيول في مكاني الإنتاج، بما في ذلك بناء، تشغيل وصيانة جميع المرافق الخاصة بالعملية.
ماذا عن البدائل؟
هذه التفاصيل الدقيقة التي يتضمنها العقد ليست الملاحظات الأساسيّة التي تخرق خيار البواخر. فالخيار بحدّ ذاته لدى تأطيره لبنانياً يبدو خارج إطار المنطق كلياً، نظراً إلى أنّ البلاد تحتاج إلى زيادة طاقتها الإنتاجية، حيث يفوق العجز في تلبية الطلب عتبة 50% في أوقات الذروة. لذا، يبدو أقرب إلى العقل أن تسعى الحكومة إلى الاستثمارات المنتجة عوضاً عن استئجار طاقة لا تزيد على 270 ميغاوات (لا تفوق 25% من العجز المسجّل في الأحوال «الطبيعية»)، وحتّى لو كانت هذه الكمية مخصّصة لتغطية العجز الناتج من صيانة المعامل الحالية الكهلة، أي إن البواخر لن تزيد الطاقة المنتجة، بل ستحل محل طاقة معطّلة للصيانة. وقد طُرحت أفكار كثيرة بهذا الخصوص، ومنها تقرير نجيب ميقاتي نفسه الذي أشار إلى أنّ من الأجدى مثلاً تركيب معمل جديد بقدرة 500 ميغاوات (Simple Cycle) وبكلفة لا تزيد على 480 مليون دولار. مع العلم أن هذا المعمل «يُركَّب خلال مهلة أقصاها سنة من تاريخ إرساء المناقصة، وهو يعمل على الوقود المتوافر (Heavy Fuel Oil) ويخدم لمدّة 25 عاماً»، وفقاً للتقرير الذي كان ميقاتي قد رفعه إلى مجلس الوزراء في آذار 2012. لكن يبدو أن التسوية أفضت إلى خيار البواخر، وهكذا يقضي اللبنانيون أيامهم ولياليهم على العتمة وفي الحرّ بمعدّل وصل التقنين فيه إلى 20 ساعة في بعض المناطق. عيونهم لا تزال متجهة صوب البحر تنتظر تلك البواخر الشهيرة التي كان مفترضاً أنّها ستُخفّف معاناة ما بعدها معاناة. هكذا وُعدوا. البواخر لم ترس عند بداية الصيف، وحتّى إن أقرت حكومتهم استدراجها غداً، فإنّ قدومها لن يكون قبل تشرين الأوّل المقبل، وحينها يكون الحرّ قد بدأ يندثر... وأرواحهم أيضاً.
الكلفة الشهرية الثابتة التي تطلبها الشركة في العقد المقترح، إن أرادت الحكومة استئجار باخرتين: الأولى بقدرة 162 ميغاوات تحضر بعد 4 أشهر، والثانية بقدرة 108 ميغاوات تأتي بعد 6 أشهر. وتُضاف إلى الكلفة الثابتة كلفة متحرّكة تُحتسب شهرياً وفقاً لمعادلة معقّدة
يوضح الملف الذي رفعه وزير الطاقة والمياه، جبران باسيل، أنه جرى الأخذ بملاحظات رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، في ما خصّ أزمة الكهرباء. فمنذ بداية العام، شهد الملف نقاشاً حامياً بدأ من شفافية استدراج العروض وصولاً إلى البدائل. وقد توصل ميقاتي في تقريره الشهير إلى أنّ الفارق الزمني بين بناء معمل جديد (500 ميغاوات) واستدراج البواخر لا يفوق 8 أشهر، مع العلم بأن المعمل يوفّر الإنتاج 24 ساعة يومياً، يعمل لربع قرن بالحد الأدنى، وكلفة إعادة تأهيل معملي الذوق والجية تبلغ 350 مليون دولار... لذا، إنّ الخيار الأوّل «يحقّق حتماً المصلحة العامة».