مقالات صحفية مختارة > استعمال التحويلات لتحفيز النمو الطويل الأمد»: مقترحات إضافية
كتب عبد الحليم فضل الله في جريدة الاخبار بتاريخ 7-4-2012
مع صدور تقرير البنك الدولي الأخير عن لبنان، تنال سياساتنا العامة اعتراضاً آخر من مؤسسة يفترض أن تساند فرضيات الانفتاح التي بني عليها خطابنا الاقتصادي، وحققنا في إطاره نمواً يقل بحوالى 30% عمّا حققته الدول النامية في العقدين الماضيين. والتقرير يستحق عناية خاصة، لكونه يضع على بساط البحث ـــ ربما لأول مرة ـــ مسألة النمو الطويل الأمد ربطاً بكثافة التحويلات والتدفقات الخارجية التي تلقّاها لبنان في الآونة الأخيرة، ولأنه أيضاً لا يحيل وظائف الدولة على القطاع الخاص كما درجت عليه عادة مؤسسات النظام الدولي وباحثوها. وحتى أواخر القرن الماضي كان ينظر إلى الأموال المتدفقة عبر الحدود بإيجابية قبل أن تكشف الدراسات اللاحقة عن التشوهات الخطيرة التي يلحقها الضخ المالي بالمؤشرات الأساسية، وخصوصاً في البلدان التي لا تبذل أي جهد لتصريف تلك الأموال في القنوات المناسبة. وعلى سبيل المثال، تشير دراسة أجريت على أحد عشر بلداً متوسطياً من بينها لبنان في الأعوام من 1990 إلى2000، إلى أن التدفقات بأشكالها المختلفة (استثمارات مباشرة، محافظ مالية، ائتمان مصرفي، ديون قصيرة الأجل...) كان لها أثر إيجابي على الاقتصادات التي تتّسم بالانفتاح التجاري، لكن دولها تقدم في الوقت نفسه حوافز للصادرات وتدير برامج لتشجيع الاستثمار المحلي وزيادة الطاقات الإنتاجية؛ أي إنها تجمع بين نظام السوق الحر والتدخل الحكومي الراسخ والهادف. هذه الدراسة التي عرضها التقرير، وضعت لبنان في عداد الدول غير المؤهلة لتوظيف الأموال الآتية من الخارج في تعزيز فرص النمو الواسع والمستدام، لأسباب عدة، من بينها ضعف القطاع المالي الذي يقلل فعالية توزيع الموارد، والافتقار إلى المصارف الشاملة، وتقلب معدلات الصرف الحقيقي، وارتفاع أسعار السلع غير القابلة للمتاجرة دولياً بأعلى من المستوى العام لزيادة الأسعار. إن الاستخدام الفعّال للسيولة المتدفقة من الخارج بكميات كبيرة، يفرض على الدولة رعاية استراتيجية من خمسة نطاقات من شأنها أن تحوّل التدفقات الخارجية من سبب لتشويه الأسعار النسبية إلى مصدر تمويل للتنمية الطويلة الأمد. وهذه النطاقات هي حسب التقرير: زيادة الاستثمار العام في البنى التحتية، تحسين فعالية الإنفاق الحكومي، إطلاق تنافسية الأسواق بما في ذلك إقرار قانون حديث للمنافسة، تعزيز حقوق الملكية، وخفض تقلبات الاقتصاد الكلي. إن من شأن ذلك، حسب دراسة البنك الدولي، زيادة الدخل الفردي في غضون خمسة عشر عاماً بنسبة 50% مقارنة بما هو متوقع في حال بقاء الأمور على حالها. العناصر الخمسة المذكورة ضرورية لتنشيط النمو المعتمد على الأموال الوافدة، لكنها تندرج في سياق رؤية حذرة للإصلاح، تتجنّب التصادم ـــ كما يذكر التقرير صراحة ـــ مع المصالح الرئيسية لقوى النظام. لكن تحقيق هدف «النمو الشامل على المدى الطويل» باستعمال التحويلات الضخمة، يتطلب مقاربة أقل تحفظاً وحذراً تضيف إلى ما أورده التقرير عناصر أخرى، من بينها على نحو خاص: تطوير قواعد عمل القطاع المصرفي، وتحرير الأسواق المالية التي تتحكم فيها جماعات الضغط وليس العرض والطلب، وتصحيح أوضاع السوق العقارية كي لا يظل ملجأً للمضاربين والباحثين عن ملاذ آمن لأصولهم. يورد تقرير البنك الدولي أن نسبة الضمانات إلى القروض في لبنان مرتفعة جداً مقارنة بالعديد من دول المنطقة. إن تغيير هذا الواقع الذي يزيد تكاليف الاستثمار غير المنظورة، يجب أن يترافق مع إعادة توزيع فعالة للثروات والمداخيل للتغلب على ما يعرف باختلال أسواق الائتمان Credit Market Imperfection، ولزيادة قدرة المصارف على توزيع الأموال بطرق صحيحة من الناحية الاقتصادية. تؤكد الدراسات التطبيقية (مثلاً: لاندنبرغ وسكواير 1999، وبورغينيون 2003) النتائج السلبية التي يتركها التفاوت الاجتماعي على أسواق المال. فالفقراء الذين لا يملكون ضمانات مقبولة مصرفياً، يحصلون على قروض مصرفية ذات تكاليف مرتفعة جداً تفوق العائد الحدي للاستثمار. وهذا يعني أن المشاريع التي يخطط لها الأغنياء ستنطلق وحدها، في حين تُحبط المشاريع الأخرى التي لا تجد تمويلاً مناسباً لها. أشار تقرير البنك الدولي إلى أن تحميل السياسة النقدية مسؤولية إدارة المخاطر وصيانة استقرار الاقتصاد الكلي وتوزيع التدفقات يثقل كاهل السلطات النقدية بأعباء يفترض أن تتقاسمها مع السلطات المالية والاقتصادية الأخرى؛ وهذا صحيح، لكن المطلوب أيضاً إصلاح السياسة النقدية نفسها، إذا أردنا أن نحسّن قدرتنا على استخدام الأموال المتوافرة وتوزيعها بكفاءة أكبر. ويمكن أن يشمل هذا الإصلاح: تحديد نسب مرجعية مثلى للمؤشرات النقدية الأساسية (مثل: أسعار الفائدة ونسب السيولة الجاهزة ومستوى الدولرة..) وفق معايير اقتصادية واجتماعية محددة سلفاً، وإخضاع معدلات التضخم وتقلبات سعر الصرف الحقيقي لمراقبة حثيثة. هنا ينبغي التفكير أيضاً بآلية اقتصادية ـــ نقدية للتحكم في التدفقات وضبط مستوياتها بدقة عند حدود احتياجات الاقتصاد وقدرته على استيعاب السيولة، لا أكثر من ذلك، كما حصل في السنوات الخمس الماضية، ولا أقل كما كانت عليه الحال قبل عقد من الزمن. لا يكتمل سيناريو النمو المموّل بالأموال الواردة من الخارج ما لم تدمج العناصر الإضافية المذكورة في برنامج الإصلاح المقترح، هذا قبل أن يضاف إليها عنصر جديد هو الريوع الضخمة التي تلوح في الأفق مع بوادر دخول لبنان عصر الطاقة الأحفورية التي لم نفكّر بعد في طرق إبعاد كأس المحاصصة المرة عنها. اقتصاد العدد ١٦٧٩ السبت ٧ نيسان