مقالات صحفية مختارة > نحو رؤية لتمويل الاستثمارات العامة
كتب عبد الحليم فضل الله في جريدة الاخبار بتاريخ 21-4-2012 . يُنظر إلى التمويل في لبنان على أنه عقبة أمام إنجاز المشروعات العامة المخطط لها سابقاً. وبين أيدينا الآن ثمانون مشروعاً جديداً وردت ضمن البرمجة العامة لخطة عمل رئاسة مجلس الوزراء، معظمها بحاجة إلى تنفيذ عاجل، ويفهم من الخطة أنّ الأولوية هي للقطاع الخاص في تمويل جزء كبير منها. قد يكون شحّ التمويل عائقاً حقيقياً، لكنه ليس معزولاً عن غيره من المشاكل. فنحن نفتقر أيضاً إلى الرؤية المتكاملة والتصميم السياسي الراسخ. الرؤية مهمة لأنها تتيح مراكمة الإنجازات على مدى زمني طويل، والتصميم ضروري لأنه يسمح بإعطاء الأولوية لكل ما هو وطني وعام على ما هو فئوي وخاص. لكن الرؤية الجيدة هي التي تتبنّى خيارات تمويل تتناسب مع الإنفاق المطلوب. في التسعينيات أنشئت سوليدير لتكون باكورة مشاريع إعمارية تخفف عن كاهل الدولة عبء التمويل وتدمج القطاع الخاص على نحو أعمق في الاقتصاد. لكن الدين العام زاد باطّراد، ولم يكن للاندماج المزعوم آثار تذكر خارج مناطق محددة في العاصمة. وأحد أسباب هذا الإخفاق تبنّي معايير موحدة في تمويل مشاريع مختلفة. إن تصميم آليات تمويل تتناسب مع برامج الاستثمار العام المخطط له هو أمر ضروري، هذا بدلاً من اعتماد الأطر القائمة كما هي من دون تكييفها مع الاحتياجات. فخلال التسعينيات مثلاً، قدمت الدولة خدمات كبيرة للقطاع المصرفي «دون مقابل». يشمل هذا على سبيل المثال لا الحصر: تعويم المصارف المتعثرة، تطبيق قانون الدمج المصرفي على نحو سخي ومرن، وإيجاد حاضنة تشريعية دافئة كرست المصارف التجارية مصدراً شبه وحيد لتمويل الاقتصاد، فضلاً عن الفوائد المرتفعة التي كانت جسر عبور آمن للمصارف من مرحلة الهبوط وعدم التأكد، إلى مرحلة اليقين وتحقيق الأرباح الطائلة. كان بوسعنا أن نفعل كل ذلك وربما أكثر، لكن على نحو متبادل وبنّاء: رزمة دعم وإنقاذ مقابل رزمة إصلاحات في بنية القطاع المصرفي، تجعل تمويل الأنشطة المنتجة في صميم سياساته الائتمانية؛ وهذا يتطلب أولاً كسر هيمنة المصارف التجارية على أسواق التمويل مع الحرص على عدم الإضرار بموقعها وسلامة أدائها. المشكلة مع هذه المصارف أن قدرتها على جذب الأموال هي أكبر بكثير من قدرتها على ضخّها داخل أوردة الاقتصاد على نحو متوازن. ولنتذكر هنا أن السيولة الفائضة التي يمتلكها الجهاز المصرفي اللبناني، قد تحسّن مؤشرات الأداء المصرفي وتعزز الثقة به، لكنها ستمثّل عبئاً ثقيلاً إذا بقيت على حالها مدة أطول. يتمتع القطاع المصرفي بوضعية جيدة، وهذا يشجع على التفكير في سبل تنويع خيارات تمويل الاستثمارات العامة. وهو ما يعيدنا إلى السؤال التقليدي الذي تطرقت إليه ضمناً خطة العمل المذكورة: كيف نواجه معضلة تمويل الاستثمارات العامة من دون أن نكبد الخزينة العامة مزيداً من المديونية والعجز؟ الإجابة البديهية هي أن العجز المالي لا يقلل من المسؤولية الملقاة على عاتق الدولة، بتوفير بنى تحتية تتمتع بالحد الأدنى من المواصفات في دولة متوسطة الدخل. لكن هناك من يضع إجابته بشأن التمويل في إحدى الزوايا الضيقة: الخصخصة أو الشراكة بين القطاعين العام والخاص أو الاعتماد على الصناديق الأجنبية أو الاستدانة بشروط الأسواق. إذا استثنينا كلاً من المؤسسات الدولية التي يتّسم تمويلها بالمشروطية والبيروقراطية، والأسواق المالية ذات الكلفة المرتفعة، فلا مفر إذاً من القطاع الخاص. والحديث يدور هنا حول تأمين 17 مليار دولار تقريباً للنهوض بثلاثة قطاعات فقط هي الطاقة والمياه والاتصالات. إن حصر الخيارات في التمويل الخاص عبر الشراكة، يقدم إجابة خاطئة عن السؤال الآنف، فهو يتجاهل التجارب التي أظهرت أن القطاع العام هو قاطرة الاستثمارات الكبرى وخصوصاً في مراحل النهوض وإعادة البناء، وقد بيّنت تجربة لبنان أن تقويم القطاع الخاص للمخاطر يتراجع في المجالات التي تهتم بها الدولة تمويلاً وتنظيماً. وهذا أيضاً يقدم الحقائق بشكل مقلوب. فإذا كان الهدف هو استخدام الفوائض المصرفية الطائلة في تمويل الإنفاق على البنى التحتية، فإن المطلوب من القطاع المصرفي أن يتكيّف مع حاجات الدولة لا أن تتكيف الدولة مع طرق عمله. أو بتعبير آخر، على هذا القطاع أن يطوّر تركيبته وآليات عمله حتى يصبح بإمكانه المساهمة في تمويل احتياجات الدولة الاستثمارية ضمن خيارات متنوعة ومتعددة تسهم هي في اختيارها. وهذا التطوير يجب أن يحصل على مستوين محلي وإقليمي. محلياً بالاتجاه نحو الصيرفة الشاملة التي تتعامل مع كل القطاعات على قدم المساواة، وإقليمياً بتوظيف فوائض القطاع لزيادة الترابط المالي بين لبنان والدول المحيطة به على نحو يخدم التنمية، مثل المشاركة في إنشاء بنك إقليمي متعدد الطرف مهمته تمويل المشاريع الاستثمارية الكبرى الوطنية أو المشتركة. ولبنان مؤهّل أكثر من غيره من البلدان العربية للدخول في تحالفات وشراكات استراتيجية بين المصارف، خصوصاً أن موجودات مصارفه تبلغ أربعة أضعاف ناتجه المحلي مقارنة بما لا يتجاوز 120% في مجمل العالم العربي. إنّ التحول إلى الصيرفة الشاملة وتطوير مصارف الأعمال بعد تنظيمها على قواعد جديدة، والإفساح في المجال أمام قيام بنوك تنمية أو المساهمة فيها، ستمكننا من استخدام أرصدتنا العاطلة على أفضل وجه، ويوفر للدولة من ناحية أخرى فرص تمويل إضافية قد تكون أقل كلفة وأفضل شروطاً من إمرار المهمة إلى القطاع الخاص. لكن هذا يحتاج قبل أي شيء آخر إلى ثقافة مصرفية جديدة تتفاعل مع التطورات المحلية والعالمية المتسارعة، وتأخذ علماً بأن جنة الدين العام لم تعد كما كانت، وأن عهدها اقترب من الانتهاء. اقتصاد العدد ١٦٨٩ السبت ٢١ نيسان