مقالات صحفية مختارة > النموذج الأوروبي للتعاون الاقتصادي: صفحة من الماضي
كتب عبد الحليم فضل الله في جريدة الاخبار بتاريخ 5-5-2012 حتى وقت قريب، كان ينظر إلى الاتحادات الاقتصادية الدائمة على أنها أرقى أشكال التعاون؛ فهي تقوم بين دول متقاربة جغرافياً، ويربطها تقاطع عميق في المصالح وصلات تاريخية قوية، ولديها حافز سياسي للتخلي عن جزء من سيادتها لمصلحة التكتل مع الدول الأخرى؛ لأنّ القيمة المضافة التي يولدها التعاون أعلى بكثير من ناتج خوض منافسات شاقة ومكلفة للاستئثار بالمكاسب المتوافرة. أكثر ما ينطبق ذلك على تجربة الاتحاد الأوروبي الذي صار خلال القرن العشرين معياراً للنجاح ومثالاً حياً على ذلك المسار السياسي _ الاقتصادي المتداخل. تقول بعض المبالغات بأنّ للقارة العجوز جذراً تاريخياً وثقافياً مشتركاً، هو نواة هويتها المفقودة التي تسعى إلى استردادها. لكن السياسيين وجدوا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية أن الوحدة لا يمكن أن تقوم على أسس أيديولوجية وميراث ثقافي غائر، بل بالاستناد إلى المصالح المشتركة، وعلى رأسها المصلحة في منع نشوب حروب شاملة أخرى. واستناداً إلى هذه الإرادة السياسية الإيجابية، مضت التجربة الأوروبية قدماً، فنجحت في تطوير الصلات بين اقتصاداتها، لكن عزيمتها تهاوت أمام استحقاق بناء الوحدة السياسية، أو ولايات متحدة أوروبية كما حلم فيكتور هوغو ذات يوم. والمفارقة التي برزت لاحقاً كانت الآتية: إذا كان التعاون يبدأ برؤية سياسية قوامها لجم النزاعات من خلال توسيع نطاق تبادل المنافع، فإنّ النجاحات الاقتصادية تغذي الطموحات الخارجية للدول المتكتلة، وهو ما يحرك من جديد المشاكل والتوترات. ويبدو النموذج الأوروبي للتعاون وكأنه من الماضي، إذ تقضم الإخفاقات والأزمات ببطء النجاحات التي راكمها خلال ستة عقود. فعلى الصعيد الاقتصادي فشلت دول الاتحاد في التزام معايير معاهدة ماستريخت للدين العام والعجز الحكومي، وألحقت العملة الأوروبية الموحدة الضرر بالدول التي تعاني عجزاً في ميزان المدفوعات وضعفاً في المنافسة، ويعجز الاتحاد عن إيجاد آليات إنقاذ فعّالة من أزمة الديون السيادية. أما الإخفاق السياسي فيعود إلى تفاقم الحس القومي والمناطقي، وتوتر المجتمعات الأوروبية وانطوائها على ذاتها، بعدما لمست أن هناك توجهاً لتخطي عتبة التكامل الاقتصادي باتجاه الاندماج السياسي. يوحي هذا التأرجح أن صفحة التعاون الاقتصادي التقليدي القائم على أطر تنظيمية ومؤسساتية معقدة انطوت صفحتها وتفتح الآن صفحة أخرى. مجموعة البريكس التي تضم البرازيل والهند وروسيا والصين وجنوب أفريقيا، هي التعبير الأفضل عن نمط التعاون الجديد الذي لا يرتبط بأفكار سياسية مسبقة ولا بانحيازات أيديولوجية، ولا حتى بطموحات متجذرة تهدف إلى الهيمنة والتوسع. وهذا النمط يتحدى المركزية الغربية، مستنداً إلى وعي سياسي مشترك بأن التعاون مع الغرب يتحول إلى تبعية مكلفة ما لم يُبن على قاعدة الندية والتكافؤ. وتنال الدول الصاعدة اعترافات بالجملة بموقعها المستقل والموازن للمركز الغربي، يعبّر عن ذلك دورها داخل مجموعة العشرين والآمال المعلقة عليها لإنقاذ أوروبا من أزمتها والمساهمة في إطفاء ما بقي من حرائق أزمة الأسواق المالية، وصارت كذلك مقصداً للموفدين الامميين الباحثين عن مخارج للأزمات الدولية. وبخلاف المسار البيروقراطي السائد، تتسم أشكال التعاون الاقتصادي الجديد بالمرونة والقدرة على التكيف السريع، وهي لا تبيت نيات سياسية خارجية مثل إقامة أحلاف طويلة الأمد، ولا داخلية مثل توحيد المعايير التي توضع على أساسها السياسات الاقتصادية والمالية. لكن ذلك لم يمنع مجموعة البريكس مثلاً من أن تكون الحضن الدافئ لمبادئ سياسية بديلة. فالطرق الناجعة التي استجابت من خلالها دول المجموعة مع تحديات الأزمة المالية العالمية، كشفت، حسبما يقول الرئيس البرازيلي السابق لولا دي سيلفا (في مقال نشره أثناء رئاسته)، عن وجود «بدائل للعقيدة البالية التي ورثناها عن الماضي المتمثلة في تحرير الأسواق وتصغير حجم الدولة، واعتماد الحزم في مواجهة حقوق العمال ومطالبهم». وينتظر لتلك الطرق والمبادئ البديلة أن تمهد السبيل أمام البلدان النامية بتأدية دور أكبر في صنع القرار العالمي. وتبين الأرقام، على نحو لا لبس فيه، أن المستقبل هو لتجارب التعاون المرنة والمتكيفة، التي تشق طريقها على قاعدة صلبة من الإنجازات الاقتصادية المحققة سلفاً؛ فقد نما الناتج المجمّع لدول البريكس الخمس بمعدل 7.5% سنوياً في المدة 1990_2010 (باعتماد معيار القوة الشرائية «PPP»)، أي منذ انطلاق قطار العولمة وحتى اليوم، فارتفع دخلها القومي الإجمالي من 3793 مليار دولار إلى 19768 ملياراً، هذا في مقابل نمو سنوي لنواتج الدول السبعة الكبرى G7 بما لا يزيد عن 1.5% سنوياً (من 12975 ملياراً إلى 29880 ملياراً). لتقفز حصة المجموعة الأولى من 14% عام 1990 إلى حوالي 26% من الدخل العالمي عام 2010 ولتتقلص حصة الدول الصناعية السبع من 48.5% تقريباً إلى 39% فقط في المدة نفسها. الفكرة الأوروبية كانت ملائمة للتعاون في زمن الاستقطاب الدولي الصارم، أما الأنماط الجديدة فهي ملائمة أكثر لنظام دولي يتسم بالسيولة الفائقة والتدفق غير المنظم للأحداث، ويحظى بتنوع في الخيارات السياسية والاقتصادية، بل وحتى الأيديولوجية. والفارق الرئيسي بين الماضي والحاضر هو أن حل الأزمات الكبرى سيمر من الآن وصاعداً بأعداد متزايدة من العواصم، وأن الكتل الجديدة الصاعدة هي التي سترسم ملامح نظام عالمي قادم تشارك فيه الولايات المتحدة الأميركية وعواصم الغرب، لكنها لن تقوده. اقتصاد العدد ١٧٠٠ السبت ٥ أيار ٢٠١٢