مقالات صحفية مختارة > النفط والغاز... من ثروة طبيعيّة إلى رأس مال إنتاجي
كتب عبد الحليم فضل الله في جريدة الاخبار بتاريخ 19-5-2012 يخطو لبنان خطوات مترددة نحو مشاركة بلدان الحوض الشرقي للمتوسط في مخزون هائل من الغاز والنفط، قد تصل قيمته إلى ألف مليار دولار أميركي. وبغض النظر عن وتيرة الاستخراج المستقبلي وسياسات إدارة القطاع، فإن عائدات هذه الثروة سترفع نصيب الفرد من الناتج إلى الفئة العليا في المنطقة، وستضاعف قيمة الصادرات مرة على الأقل، وتسمح لنا كذلك بتحقيق فوائض دائمة في ميزان المدفوعات دون الاستعانة بالقروض الخارجية. لكن السؤال المركزي الذي ينبغي التفكير به من الآن، هو عن سبل استيعاب الثروة النفطية المرتقبة داخل نشاط اقتصادي يهدف إلى تحقيق التنمية الدائمة وحل المشكلات المستعصية في آن معاً. ونجد في تجارب الدول الأخرى، ثلاثة نماذج لكيفية توظيف عائدات الثروات الطبيعية، وخصوصاً منها النفط والغاز في الاقتصاد. فهناك دول وضعت العائدات في خدمة أنشطة الإنتاج، ولا سيما في الصناعة، وجعلت أولويتها تأمين إمدادات منتظمة ورخيصة نسبياً من الطاقة مع توجيه عناية أقل للتصدير. أي أنها اهتمت بالعائدات الاقتصادية، لا بالإيرادات النقدية. هذا ما فعلته البلدان الصناعية الكبرى، وتفعله الآن الدول الصاعدة التي يزداد استهلاكها للطاقة بوتيرة متسارعة. ويلجأ العديد من الدول المتقدمة إلى تنويع مصادر الطاقة وخفض اعتمادها على الاستيراد، فتخطط الولايات المتحدة الأميركية مثلاً لتكثيف إنتاج النفط والغاز من الصخور والرمال وما يطلق عليه الطفل السطحي، بهدف خفض استيرادها للنفط والغاز من 52% من مجموع استهلاكها عام 2010 إلى 22% بحلول عام 2020. النموذج الثاني الذي اعتمدته مجموعة ثانية من البلدان، وضع عائدات النفط في خدمة مسار معجّل للتنمية قائم على الاستثمارات الكبرى المخطط لها سلفاً، والدعم الاجتماعي وتطوير الموارد البشرية. ولم يشغل هدف زيادة متوسط الدخل الفردي مكانة متقدمة في هذه المجموعة، مقارنة بالأولوية المعطاة للتصنيع واستيعاب التقنيات الحديثة والحيوية. لكن مع وجود هدف مضمر لديها هو تعزيز السيادة الاقتصادية وزيادة القوة الجيو ـــ استراتيجية للدولة. وفيما تعاطت دول المجموعتين مع عائدات النفط والغاز على أنها عامل في تحسين الموقع التنافسي للبلد على الصعيدين الصناعي والتجاري، فإن مجموعة ثالثة من الدول رأت في التدفقات النقدية الناتجة من تصدير البترول ميزة قائمة بذاتها، ولا حاجة من ثمّ لأن تدرج ضمن منظور للتقدم الاقتصادي. صحيح أن معظم هذه الدول يملك صناديق سيادية (تشكل أقل من 5% من مجموع الأصول العالمية وتتراوح موجوداتها بين 15% و20% من إجمالي عائدات النفط في العقدين الأخيرين)، إلا أنها استخدمت الجزء الأكبر من الإيرادات للتوسع في إنفاق استثماري وجار قليل الجدوى، وخصوصاً في مجال البنى التحتية الخدماتية التي تفيض عن المطلوب، وقطاع البناء الذي استنزف في دول الخليج أموالاً طائلة على مشاريع عملاقة لا تخدم هدفاً اقتصادياً محدداً، هذا فضلاً عن شراء النفوذ في الداخل والخارج، وصفقات السلاح الهائلة غير المبررة. لدينا إذاً ثلاثة نماذج لثلاث مجموعات من الدول، واحدة ركزت على استهلاك مواردها من النفط والغاز داخلياً، وثانية اعتمدت على التصدير، لكنها ضخت جزءاً معتداً به من العائدات في سياق مشروع تنمية طويلة الأمد يهدف إلى تعزيز قوة الدولة، أما المجموعة الثالثة فوجهت عائداتها لتسهيل قيام اقتصاد ريعي ذي قشرة تحديثية هشة. ربما علينا في لبنان الجمع بين خيار من هنا وخيار من هناك للخروج برؤية مركبة، تهدف في وقت واحد إلى إحداث نهضة إنتاجية؛ وزيادة قدرة البلد على حل مشكلاته المالية والاجتماعية الراهنة. والمبدأ المحوري الذي يحكم هذا التصور هو الحرص على تحويل رأس المال الطبيعي إلى رأس مال إنتاجي، أي استبدال أصول بأصول. ومع أن النقاش اللبناني في هذا الشأن لا يزال خجولاً، فقد ظهرت حتى الآن وجهتا نظر: الأولى تضمنتها خطة العمل للإصلاح الاقتصادي والاجتماعي الصادرة عن رئاسة مجلس الوزراء، والتي رأت أن «مبيعات البترول (يجب) أن تكرس عوائدها لسداد مستحقات الدين العام... (إلى أن) يتراجع حجم الدين إلى ما دون 60% من الناتج المحلي الإجمالي». أما وجهة النظر الثانية فدعت إلى تخصيص الجزء الأكبر من إيرادات النفط والغاز للدعم الاجتماعي، حتى لو تطلب الأمر توزيع مخصصات منتظمة للأسر، على أن تطبق في الأثناء ضريبة تصاعدية تعيد للدولة جزءاً من فوائض النفط والغاز على حساب الأغنياء. بيد أن قاعدة استبدال رأسمال إنتاجي برأسمال طبيعي تضع أمامنا خياراً ثالثاً، وهو تكريس إيرادات الصندوق السيادي، لتطوير البنى التحتية المادية والبشرية والعلمية والقطاعية، ولخفض الدين العام الخارجي، ولتكوين احتياطات وطنية طويلة الأمد. ويمكن أن يوظف جزء من أصول هذا الصندوق في سندات الدين العام ولتقديم تسليفات للقطاع الخاص، فمن شأن ذلك خفض معدلات الفائدة وتقليص كلفة الدين العام وزيادة مستويات الاستثمار. قد يكون النقاش عن سبل استخدام عائدات النفط سابقاً لأوانه، فربيعنا النفطي سيتأخر، في ظل نظام سياسي عاجز عن اتخاذ القرارات المناسبة في الوقت المناسب، ولن يجد مناصاً من اعتماد تكتيكات المحاصصة والاسترضاء لتجاوز العقبات وإنجاز التسويات. لكن هذا لا يمنع من التصرف بمسؤولية على الأقل في مواجهة ثلاثة مخاطر مترتبة على الدخول في عصر النفط: التوزيع غير العادل للعائدات على نحو يفاقم الاحتقان الاجتماعي، جعل الريوع النفطية بديلاً للتنمية المادية والبشرية وليس محفزاً لها، ما يضيع علينا فرصة نادرة للتنمية ويفاقم ظاهرة المرض الهولندي، وأخيراً تحويل المال النفطي إلى مال سياسي وهو ما يزيد شجون هذا البلد وهمومه. اقتصاد العدد ١٧١١ السبت ١٩ أيار