مقالات صحفية مختارة > الهروب من المخاطر إلى... الهشاشة
كتب عبد الحليم فضل الله في جريدة الاخبار بتاريخ 2-6-2012
نواجه في هذه المرحلة الحرجة تحديات جديدة، لكنها لن تظهر في معادلة المخاطر الاقتصادية، هذه التي لا تتبدل مع تبدل الظروف وتطور الأحوال. صحيح أن فوالق الأزمة في لبنان هي نفسها لا تتغير، والتي تأتي على شكل انهيار نقدي، كما حدث قبل عقدين، أو عبر ركود طويل، كما في الأعوام 1996 ــ 2003، أو على صورة عجز مالي وتجاري ... الخ، إلا أن مركز الأزمة يتنقل باستمرار بين مسار مالي ونقدي وآخر اقتصادي واجتماعي، وما لم ننجح في رصد البؤرة الرئيسية للخطر في كل مرحلة، ونعيد ترتيب أولوياتنا على أساسها، فسنقع إما بتضخيم بعض المخاطر (مثل التدهور النقدي)، أو التقليل من شأن أخرى (البطالة والتضخم ...)، وفي الحالتين سنتحمل كلفة من الممكن تجنبها. وما نعتمده اليوم هو معادلة من ثلاثة مكونات أدرجت تباعاً على مدى العقد الأخير من القرن الماضي، وتتضمن: مخاطر الصرف التي جرى التركيز عليها غداة الحرب الأهلية، ومخاطر تمويل الدين العام بعدما صار نمو الودائع في بعض الأوقات أقل من متطلبات تمويل العجز المالي الحكومي، ومخاطر نضوب العملات الأجنبية، التي لا بد أن نتلقى ما يكفي منها لتغطية عجز ميزان المدفوعات، ولتكوين احتياطيات مالية تدعم سياسة تثبيت الليرة اللبنانية تجاه الدولار الأميركي. وهذه المعادلة صحيحة، لكنها ليست مرنة ولا تستوعب متغيرات العقد الأخير، كما أنها لم توضع على أساس موازنة دقيقة بين مستوى الخطر والأثمان التي سنؤديها لتجنبه. وقد تحمل الاقتصاد عموماً والمالية العامة خصوصاً تكاليف باهظة جراء المبالغة في الاحتياط. في التسعينيات مثلاً تضمنت الفوائد على الدين العام علاوة مخاطرة تصل إلى ضعف العلاوة المفترضة طبقاً للتصنيف الائتماني للبلد في ذلك الحين، وهذا يفسر تحقيق معظم الاكتتابات بسندات اليوروبوند في الخارج فوائض متتالية. وعندما زاد الاهتمام الحكومي بالصعوبات المحتملة في إعادة تمويل الدين العام في نهاية التسعينيات وفي بداية الألفية الجديدة، أضيفت إلى مبررات اتباع سياسات نقدية تضييقية حجة أخرى، وهي تمكين الحكومة من استبدال ديونها دون تأخير، وهذا فرض على الاقتصاد تكاليف أخرى للوقاية من خطر كان يمكن مواجهته بكلفة أقل لو أعدنا ترتيب المخاطر على نحو يتناسب مع المرحلة. وبالمحصلة، كنا نقوي احتياطاتنا المالية والنقدية، ونزيد بالمقابل هشاشة الاقتصاد ونضاعف قابليته للعطب. وكثيراً ما كنّا نغلّب الشكل على المضمون، فقد بالغنا في تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية تجاه الدولار الأميركي. لكن تحت ستار هذا التثبيت، كانت تتحرك القيمة الحقيقية للعملة الوطنية إما صعوداً في التسعينيات، حيث كانت النتيجة تباطؤ النمو وزيادة عجز الميزان التجاري، أو نزولاً في الأعوام السبعة الماضية والذي ترتبت عليه زيادة في معدلات التضخم. لكن السياسة النقدية المتصلبة أدت أيضاً إلى تسارع نمو الدين العام، على نحو أفقد قطاعات الإنتاج قوة دفعها الذاتية وأثر سلباً على رصيد الحساب الخارجي. وهنا تضخمت مهمة القطاع المصرفي الذي صار منتظراً منه ليس فقط اجتذاب مزيد من الودائع وبأي ثمن لتغطية العجز المالي، بل أيضاً حفز التحويلات والتدفقات المالية من الخارج لردم الهوة المتسعة في ميزان العمليات الجارية، وهو ما كان يتم حصراً من خلال زيادة الهامش بين الفائدة المحلية والفوائد العالمية. لقد دفعنا إذاً ثلاث فواتير متزامنة لشراء المخاطر: فاتورة تثبيت النقد، وفاتورة استدامة مصادر تمويل الدين العام، وفاتورة التوازن الشكلي في الموازين الخارجية، هذا إلى جانب فاتورة اقتصادية تمثلت في نمو متقطع وضعيف يقل عن نصف ما هو متوقع في ظل سياسات أفضل. وكان يمكن اختصار الأمر كله بتمويل سياسات نمو قائم على الدعم الحكومي والاستثمار العام والانفتاح التجاري المدروس. والأدهى هو أننا مطالبون الآن بتأدية هذه الفواتير من حساب السياسة، لا من أي حساب آخر، فاقتصادنا الهش صار عالقاً في شباك النظام المالي العالمي، وهو واقع كذلك في قبضة الدول المانحة والبلدان النفطية التي تعد المصدر الرئيسي للتحويلات والتدفقات التي ننعم بها، مع العلم بأن هذه الأخيرة لن تألو جهداً في تجنيد كل رأسمالها المالي والسياسي والمعنوي وصرف نفوذها الذي راكمته سابقاً على قاعدة المعونات، وذلك في سبيل الفوز بمعاركها الإقليمية الصاخبة. إن تزاحم الموفدين الأميركيين على أبواب مؤسساتنا المصرفية والمالية، وتكيفنا دون نقاش مع مطالب واشنطن، وآخرها قانون الامتثال الضريبي، واختيار دول خليجية لحظة بدء الموسم السياحي لتحذير رعاياها من زيارة لبنان، لهو أبلغ دليل على أننا ضللنا السبيل في خياراتنا السابقة، وأن ثمن الانكشاف الاقتصادي لم يعد مالياً أو نقدياً فحسب، بل صار سياسياً، فالتأرجح على حبال الخارج لم يعد مفيداً، وأطواق النجاة التي تمثلها الإجراءات المالية والنقدية التي اعتدنا عليها غير صالحة لمواجهة العواصف الآتية. وليس هذا خطأ المصارف ولا ذنب المعتمدين على التحويلات المالية، بل مشكلة صانعي السياسات الذين فرضوا رؤاهم الأحادية فرضاً، واحتفلوا بالسياسات التي تقلل المخاطر على المدى القريب، مع أنها تضاعفها على المدى الطويل، ثم إنهم لم يمتلكوا الجرأة اللازمة لإيقاف ذلك المصعد الذي كان ينقل المشكلة من مستوى إلى آخر، وها هو يصل إلى محطته الأخيرة ليقف الاقتصاد من جديد في عراء السياسة، التي لا يحدّها سقف ولا يحول دون رياحها حائل. اقتصاد العدد ۱۷۲۲ السبت ۲ حزيران