22 نيسان 2025 
كتب جاد هاني قبل منتصف عام 2018، كان مصرف لبنان يمنح المصارف التجاريّة دعمًا منتظمًا لتمويل الرهن العقاريّ، بما يوازي نحو مليار دولار سنويًّا. بقرار توقف الدعم في تموز 2018، أعلنت المؤسّسة العامّة للإسكان "وقف استقبال الطلبات الجديدة تفاديًا للإحراج"، فتجمّد سوق الرهن العقاري بتكدس آلاف الوحدات غير المباعة وارتفاع بدلات الإيجار بحسب وسطاء عقاريين في بيروت وضواحيها. لكن عندما تولّى أنطوان حبيب إدارة مصرف الإسكان منتصف عام 2022، بدا المشهد مختلفًا: من خلال جولات على سفراء ومسؤولين خليجيين، أعلن حبيب عن "إحياء" الائتمان السكنيّ عبر جلب تمويل خارجيّ، خصوصًا من الصندوق العربي للإنماء الاقتصاديّ والاجتماعيّ وصندوق قطر للتنمية. تحدّث حبيب في مؤتمراتٍ صحافيّة عن ضخّ مئات الملايين من الدولارات وتقوية قدرة المصرف على منح قروض بالسّعر المدعوم للبنانيين وتشجيع الشباب على الاستملاك في لبنان. لكن خلف الضجيج الإعلاميّ صمتٌ رهيب، فلا المستفيدون ظهروا على سجلات مصرف الإسكان، ولا دفاتر الواردات الرسميّة أدرجت أسماء المقترضين، فيما ظلّت جميع الطلبات معلقة على منصة الطلبات "قيد الدرس" بلا موعدٍ ثابت للإجابة. اتفاقيات التمويل وغياب التنفيذ في آب 2023، أعلن المدير العام لمصرف الإسكان أنطوان حبيب تجديد عقد مع "الصندوق العربيّ للإنماء الاقتصاديّ والاجتماعيّ" يقضي بمنح المصرف 50 مليون دينار كويتي (نحو 165 مليون دولار) تُحوَّل على دفعات سنويّة بعدما كان القرض بحكم الملغى بسبب الجمود السياسيّ. وعد حبيب حينها بأن تُخصّص الدفعة الأولى لتمويل شقق لا تتجاوز مساحتها 150 م²، بسقف 40 ألف دولار لذوي الدخل المحدود و50 ألفًا للدخل المتوسط، على أن يغطّي المقترض 20 في المئة من ثمن المسكن. منذ أيلول 2024، بدأ مصرف الإسكان باستقبال طلبات القروض السكنية بعد حصوله على دعم عربي أساسي بقيمة 165 مليون دولار قدمه الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي بهدف إعادة إطلاق "حلم امتلاك الشقة" لدى اللبنانيين، ثم أعلن المدير العام عن نيته رفع سقف القروض من 50 ألف دولار إلى 100 ألف دولار، على أن يتم ضخ دعم سنوي بقيمة 50 مليون دولار لمدة ست سنوات، مع تمديد فترة السداد إلى 20 عامًا بفائدة مدعمة لتناسب ذوي الدخل المحدود والمتوسط. بعد أكثر من 18 شهرًا على توقيع الاتفاق لم يُنشر حتى اللحظة أي جدول واحد يبيّن أسماء المستفيدين أو تواريخ صرف القروض أو حجم الإقراض وعدد المقترضين. مصدر نيابي مطلع يؤكد في حديث لـ"المدن" أن عدد العقود المسحوبة "لا يتجاوز أصابع اليدّ الواحدة"، بينما تقول الإدارة في تصريحاتها إن المنصة تلقت "نحو 24 ألف طلب" من دون إعطاء أرقام المصادقة النهائيّة. في وسط هذه الضبابية يتساءل كثيرون: أين قروض مصرف الإسكان؟ وقد امتدت الانتقادات إلى النائب بلال عبدالله، الذي أعاد فتح الملف علنًا. يقول عبدالله في حديثه إلى "المدن" إنّ الدولة، في المبدأ، ملزمة بأخذ قروض دائمة لخدمة الشعب اللبنانيّ وتحويلها إلى المؤسّسة الوطنيّة للإسكان، وهي الجهة الرسمية المسؤولة عن السّياسة الإسكانيّة. هناك مصرف الإسكان ومصرف القرض العقاري كجهتين تنفيذيتين؛ 80 في المئة من أصول مصرف الإسكان مملوكة للقطاع الخاص و20 في المئة فقط للدولة، فتطغى مصالح البنوك على الهدف الاجتماعيّ. وعند منح قروض جديدة، فإن فائدتها تعود في النهاية إلى المواطن عبر برامج الإسكان، كما أن قطاع القروض في مصرف لبنان متشدّد جدًا ولا يقدم تسهيلات حقيقية للفقراء؛ وعلى حد معلومات عبدالله "فإننا نسمع دائمًا عن حصول عشرات الأشخاص على قروض في المصرف، لكن عند إطلاق برنامج قرض الطاقة الشمسيّة مثلاً، تبين أنه لم يستفد منه أحد حتى الآن؛ رغم أن عشرات الأشخاص تقدموا للحصول على هذا القرض، لم يتم صرفه؛ تتراكم الالتزامات المالية، وفي حال الحصول على قروض إضافية ستتزايد الأعباء". وقد حاولت "المدن" التواصل مع أنطوان حبيب، لطرح تساؤلاتها من دون أن تلقى ردًّا على اتصالاتها. تضارب المصالح وغياب الشفافية في عام 1977 صدر مرسوم إنشاء "مصرف الإسكان" شريكًا بين الدولة والقطاع المصرفي، لكن الحصة الحكوميّة تراجعت على مرّ السنين إلى 20 في المئة مقابل 80 في المئة للقطاع الخاص (فرنسبنك، بيبلوس، ميد، بيروت، بلوم…)، ما أثار تساؤلات حول تضارب المصالح بين وظيفة المصرف الاجتماعية وحاجته للسيولة الأجنبية. وينصّ اتفاق عام 1977 على أن مهمّة السّياسة الإسكانيّة تقع على عاتق "المؤسّسة العامة للإسكان"، بينما يُسمح للمصرف بتنفيذ جزء من البرامج بصفته "ذراعًا تنفيذية". تحويل القروض السياديّة مباشرة إلى المصرف يُفرّغ هذا الترتيب من مضمونه وفق ما يرى مراقبون. عمليًا، يقرِض القطاع نفسه أموالًا أجنبية يَدّعي أنها مخصصة للإسكان الشعبي. وهنا يبرز تضارب المصالح: هل يمكن لمصرف يحتاج "دولارات طازجة" لإنقاذ ميزانيته أن يترك أموال القرض مجمَّدة ثلاثين سنة داخل شقق سكنية؟ يرى النائب عبدالله أن "تحويل القرض العربي من المؤسسة العامة للإسكان إلى مصرف يسيطر عليه القطاع الخاص تحايل على الغاية الاجتماعية". المفارقة أن قانون النقد والتسليف يضع المصارف تحت رقابة مصرف لبنان، بينما تُراقَب المؤسسات العامة بواسطة ديوان المحاسبة. أما مصرف الإسكان بصفته "شركة مختلطة" فيقف في المنطقة الرمادية: لا هو خاضع لرقابة الديوان ولا ملزم بنشر بيانات إفصاح كاملة كالمدرجة في البورصة. ينصّ العقد مع الصندوق العربي على فتح حساب بالعملة المخصّصة لدى مصرف لبنان تتدفّق إليه الدفعات. بحسب ما تسرب إلى لجنة المال والموازنة، حُولت الدفعة الأولى (نحو 34 مليون دولار) في أيلول 2024 وتلتها ثانية بقيمة 16.2 مليون في كانون الأول 2024. لكن مصرف الإسكان لم يبرز أي محضر يشرح طريقة السحب أو يحدد سعر الفائدة النهائيّ على المقترض. في تموز 2022 أطلق مصرف الإسكان منصته وحدد قيمة القرض بالليرة بما يعادل نحو 33 ألف دولار. تهاوى سعر الصرف فتبخرت تلك القيمة، فانتقل الخطاب الرسميّ إلى التبشير بقروض بالدولار النقديّ عبر "القرض الكويتي". في آذار 2025 أشارت الإدارة إلى اقتراح برفع السقف إلى 100 ألف دولار "إذا توفرت تمويلات إضافية"، لكن الاقتراح لم يمرّ في مجلس الإدارة ولا نُشر في الجريدة الرسميّة، ما جعله أقرب إلى حملة علاقات عامّة من خطوة تنفيذية. منتصف نيسان 2025 زار وفد مصرف الإسكان الدوحة بدعوة من "صندوق قطر للتنمية" لبحث "قرض ميسّر جديد". البيان الختامي وصف اللقاء بالتقني ولم يُلزم الصندوق بأي مبلغ أو جدول زمني. مع ذلك تسابقت وسائل الإعلام اللبنانية إلى الاحتفاء بـ"انفراج قريب"، فيما تخوّف مراقبون من أن تتحول الدوحة إلى نسخة ثانية من الكويت: أموال معلنة وصفر مستفيدين. يحذّر عبدالله: "نؤكد أننا لا نتبنّى موقفًا شخصيًا ضد المصرف، ولكننا نسعى لاستيضاح الحقائق". السّياسة الإسكانيّة ما يطفو على السطح اليوم هو تعاقب الوعود الإعلامية والعقود المالية من دون إطلاق فعلي للقروض، وسط غياب تام للشفافية وتضارب مصالح لا يخدم فيه المواطن صاحب الحاجة الأساسية إلى السكن. يبقى السؤال: هل سيخرج "حلم امتلاك الشقة" من إطار الأرقام والوعود إلى أرض الواقع فعلاً، أم ستظل القروض حبيسة الحسابات المصرفية والسياسات غير المفعلة؟ المصدر : صحيفة المدن |