١٨ حزيران ٢٠٢٥ 
المصدر: البناء - عباس قبيسي في سياق الوضع الطبيعي، يُفترض أن يكون العمل وسيلة للعيش والأجر مقابل الجهد الذي يُبذل، وضماناً لاستمرار الحياة بكرامة، لكن في زمن الانهيار انقلبت المعادلة وأصبح الراتب عبئاً لا عوناً، والوظيفة قيداً لا مخرجاً كأنها تخلّت عن دورها بصمتٍ ثقيل، تاركة الفراغ يبتلع ما تبقى من الثقة والأمل معاً. هكذا تبدو حال العامل اللبناني اليوم، كما حال كثيرين في أماكن أخرى انهارت فيها المؤسسات وتُرك الناس لمصيرهم المجهول والتسكع على أرصفة العوز، تزامناً مع ارتفاع تكاليف المعيشة وتآكل القدرة الشرائية، أصبح الراتب رمزياً بالمعنى الحرفي، لا يكفي سوى لتغطية أبسط الاحتياجات. «الراتب ما بيكفي لثلث الشهر» عبارة تسمعها يومياً من موظفين وأساتذة وعمال، لكن خلف هذه الجملة المتداولة تكمن أزمة أعمق من مجرد أرقام إنها أزمة وجود. ما الذي يدفع شخصاً إلى الاستمرار في وظيفة لا توفّر له الحدّ الأدنى من الحاجات اليومية؟ هل هو الخوف؟ العادة الروتينية؟ الكسل والخمول؟ الأمل الضمني بأن شيئاً ما سيتغيّر في المستقبل القريب؟ أم أنّ الناس تذهب إلى وظائفها لأنها لا تملك بديلاً عنها؟ حين يفقد العمل هدفه الأسمى، يفقد الإنسان شعوره بالجدوى، «انّ الفلسفة الوجودية لطالما اعتبرت أنّ الإنسان يُعرّف بذاته من خلال الفعل والعمل»، لكن الذي حدث تحوّل العمل إلى تكرار جهد ميكانيكي لا يقابله أيّ مردود مادي فعلي وبذلك نكون قد دخلنا من دون أن ندري في حالة من اللاجدوى المعيشية، وأصبح الراتب عاجزاً عن تأمين الطعام، التعليم، والاستشفاء أو حتى الاستقرار الفكري، وبات كناية عن تعويض رمزي أشبه بإكرامية أخلاقية لإبقاء النظام الشكلي قائماً، وفي هذه الحالة يصبح العمل نفسه لا البطالة هو التهديد الأكبر للكرامة، وتتحوّل الوظيفة إلى وسيلة للسيطرة النفسية، وتعاد صياغة العلاقة بين العامل والمؤسسة التي يعمل فيها لتصبح الوظيفة تُمارَس من خلال الامتنان القسري.
انّ الخوف المقنّع بالحوافز في بيئة العمل لا يُفرض بالقوة، بل يُزرع بالتدريج في اللغة والتخاطب اليومي في نبرة التقييم، في ثقافة الشكر على الفتات، حتى يغدو الموظف مقتنعاً بأنّ مجرد بقائه امتياز، وأن الاعتراض ترف لا يليق بالمحتاج. في لبنان، تحوّلت الدولة إلى مجرّد هيكل إداري فارغ وشغور بالملاكات تجاوز 70% في بعض الإدارات والمؤسسات والوزارات، والراتب الرسمي لا يكفي في كثير من الأحيان العيش لعشرة أيام، لكن التخلّي عنه يعني التخلّي عن الضمان الاجتماعي والاستشفاء، وضمان الشيخوخة وتعويض التقاعد (ولو كان هو الآخر لا يساوي شيئاً وبات في مهبّ الريح). هناك قناعة راسخة مؤلمة تشكلت لدى شريحة واسعة من الموظفين بأنهم لا يعملون بدافع التطور وتحقيق الذات، بل لأنهم مرتهنون لوظائفهم كوسيلة لتأجيل الانهيار الشخصي ولو مؤقتاً. فمنذ بداية الأزمة المالية التي ضربت البلاد، اتخذ عدد كبير من الموظفين والعمال قرارات حاسمة بعضهم استقال، وآخرون غادروا البلاد، فيما اختار البعض تغيير مسارهم المهني بالكامل، إلا أنّ الغالبية العظمى بقيت، لا لأن البقاء هو الخيار الأفضل، بل لأنه الأقل سوءاً بين مجموعة من الخيارات الموجعة. في هذا الواقع، تبرز مفارقة قاسية أن يبقى الشخص في وظيفة لا تؤمّن له الحدّ الأدنى من العيش الكريم، لكنه في الوقت نفسه يخــشى مغادرتــها خوفاً من المجهول. هذا «البقاء القسري» أدى إلى ظاهرة مقلقة تُعرف «بـالاستقالة الداخلية»، حيث يواصل كثيرون أداء أعمالهم جسدياً، بينما تغيب الحماسة والفكر والطاقة، ويتلاشى الشعور بالشغف والانتماء . بطبيعة الحال، المطالبة برفع الرواتب، هي من أبسط الحقوق المشروعة، والسؤال الجوهري الذي يطرح: ما الذي نريده من العمل؟ هــل هو مجــرد مورد مالي؟ أم أنه أيضاً مصدر للقيــمة، والتقديــر، والكرامة؟ فــي لحــظة كهذه، يبدو الجواب عن هذا السؤال أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى. انّ الراتب لم يعد وسيلة للعيش، بل أصبح مرآة لأزمة اقتصاديه وجودية مقنّعة بلباس إصلاحي، تشبه كثيراً الأزمات المعاصرة التي لا تملك جوابــاً وباتت مصداقية الدولة على المحك ومســؤوليتها لا تقتــصر على إدارة الأزمة وشراء الوقت بل تتجلى في حماية مواطنيها وتثمّن تضحياتهم، وفي مقدمتهم الموظفون والعامــلون الذين يشكّلون العمود الفقري للإدارة والخدمات وانّ معالجة الرواتب والأجور ليست ترفاً بل أولوية وطنية، تفرضها العدالة الاجتماعية والمطلوب اليوم من الحكومة اللبنانية مقاربة هذا الملف برؤية اصلاحية شاملة وليست استنسابية وخطة عملية قابلة للتطبيق بما يتناسب مع تكاليف المعيشة ومعدلات التضخم وإحصاءات غلاء الأسعار والضرائب، وتعيد إلى العمل قيمته، وإلى العامل حقّه في العيش الكريم. |