عبد الحليم فضل الله تتغير قواعد اللعبة الدولية على نحو ملموس، وهي التي لم تستقر على حال منذ نهاية الحرب الباردة. وكان على العالم أن ينتظر خريفاً طويلاً من الحماقات والأزمات الدموية، حتى يكتشف متأخراً أن أي نظام بديل لم يقم على أنقاض نظام القطبين، وأنه كان فريسة موجات فوضى عارمة أطلقت العنان لصراع هويات قاتل، ولحروب هيمنة ضارية. وعلى الصعيد الاقتصادي، كان سوء التقدير سيد الموقف أيضاً. فقد نعمت الولايات المتحدة في التسعينيات بنمو مطّرد وتراجع في العجزين المالي والتجاري وزيادة في حركية رأس المال، ما أعطى زخماً للتعاليم الليبرالية المتطرفة. ساد حينها شعور متفائل بأن العولمة ستؤكد تمركز الاقتصاد العالمي حول اقتصادات الدول الغربية، وأن هذه ستقتنص نسباً مئوية إضافية من ثروة العالم كلما اتسع نطاق الحريات الاقتصادية. لكن مركز الثقل الاقتصادي أخذ ينتقل باطراد من الغرب إلى الشرق على نحو مخالف للتوقعات. فقبل عقدين، علّقت على الاقتصاد الياباني آمال كبيرة بأن يكون الحصان الرابح في السباق مع واشنطن نحو القمة. لم تكن الصين تلفت انتباه أحد، وكذلك الهند (إلا لناحية عدد المهددين بالموت جوعاً)، ولا حتى البرازيل الغارقة حينها مع جيرانها بأزمة ديون خارجية ثقيلة. الدول الثلاث هذه، ومعها روسيا وجنوب أفريقيا، هي الآن محط اهتمام الاتحاد الأوروبي اللاهث وراء المعونات المالية، وهي مركز الثقل في دول مجموعة العشرين التي لا تحظى الدول الصناعية السبع فيها بأي أفضلية على دول الأسواق الناشئة. وها هي واشنطن الآن تجهد لاستيعاب أزمتها المالية، وتقف عاجزة عن مد يد العون لأصدقائها الأوروبيين في أزمتهم الراهنة، ويلازمها الفشل حتى في أروقة مجلس الأمن حين أخفقت ديبلوماستها مرتين في ثني روسيا والصين عن استعمال الفيتو في وجه قرارات تتعلق بسوريا. هذه الحقائق تقابل بالإنكار ممن لم يساورهم الشك بعد في مستقبل القوة الأميركية. هذا ما يفعله مثلاً المؤرخ الأميركي روبرت كاغان الذي يصرّ على أن حصة الولايات المتحدة الأميركية من الاقتصاد العالمي لم يطرأ عليها أي تراجع منذ عام 1969. لكن إذا صح هذا التقدير، فعلى حساب من زادت نسبة الاقتصاد الصيني من 2,2% من الاقتصاد العالمي عام 1980 إلى 14,4% عام 2011؟! وماذا عن توقعات صندوق النقد الدولي لناحية وصول حصة الصين عام 2016 إلى 18% من الناتج العالمي، مقارنة بـ17,6% فقط للولايات المتحدة؟ تدل الوقائع على أن ولادة نظام دولي جديد يرث ثنائية الحرب الباردة باتت قريبة. مع أن اكتمال الولادة يتطلب في ما يتطلبه تحقيق التوازن بين موقع كل دولة من الدول على خارطة السياسة الدولية من جهة، وبين مساهمتها في الإنتاج العالمي من جهة أخرى. فدول الأسواق الناشئة التي راكمت خلال السنوات العشر الماضية نمواً يساوي ضعفي النمو في الدول الصناعية الكبرى على الأقل، لم تسجل حضوراً موازياً لا على المستوى السياسي ولا على مستوى المؤسسات الدولية. وما زال بوسع الولايات المتحدة أن تنفق ما يزيد على 43% من فاتورة الإنفاق العسكري في العالم (689 مليار دولار من أصل 1630 ملياراً)، ثم تفرض على الآخرين مشاركتها في تغطية العجز المالي والتجاري الناجم عن ذلك. وإذا أخذنا بما أورده الكاتب الاقتصادي جدعون راشمان في كتابه «مستقبل تتساوى فيه الأرباح والخسائر» عن أن العولمة هي ظاهرة جيواستراتيجية بقدر ما هي ظاهرة اقتصادية وسياسية، فإن منع أو امتناع دول الأسواق الناشئة عن استثمار نجاحاتها الاقتصادية في حقل السياسة العالمية، سيعرقل قيام نظام دولي مستقر، ويحملنا من ثم مخاطر اتباع قواعد النظام القديم الذي زالت مبررات وجوده، لكنه يستمر بقوة الهيمنة السياسية والعسكرية. هناك فرصة، ولا شك في قيام نظام دولي جديد لا يشبه الملامح البائسة التي رسمها الغرب على وجه العالم مأخوذاً بنشوة انهيار الخصم الإيديولوجي في بداية التسعينيات. ولدينا ثلاثة أسباب لقول ذلك: التبدل العميق في توزيع القدرات الاقتصادية عالمياً. إخفاق القوة العسكرية المتفوقة لأميركا في تحويل نجاحاتها العسكرية إلى مكاسب سياسية، وانطفاء جاذبية النموذج الغربي الأميركي الذي لم يلهم أياً من المنتفضين في العالم العربي. وبتعبير آخر، تزداد فرص قيام نظام عالمي متوازن ومتعدد، كلما صار صعباً على واشنطن التعويض عن تراجع قوتها الاقتصادية، إن من خلال تفوقها العسكري أو عبر جاذبية نموذجها السياسي ونمط حياتها الليبرالي. هذا بغض النظر عن إصرار جوزف ناي على فكرة القوة الأميركية الناعمة، وقيام فرانسيس فوكوياما في كتابه الجديد (بدايات النظام السياسي) بإعادة إنتاج نظريته عن نهاية التاريخ، للتأكيد أن النموذج السياسي الأميركي لا يزال المثال الكوني الصالح. لكنّ توافر الشروط لا يكفي وحده. فقيام نظام دولي جديد يتطلب أفعالاً ومنافسات دولية، وربما خوض صراعات، ويوجب التخلي أيضاً عن فرضية أنّ النجاح الاقتصادي وحده قادر على تحقيق التوازن التاريخي مع الغرب. إذا كانت هذه هي رؤية الصين التي تنتظر تحول نجاحاتها الاقتصادية تلقائياً إلى مكاسب استراتيجية وفي الوقت المناسب، فإن رؤية أخرى تشق طريقها بثبات، هي الرؤية الإيرانية، وإلى حدّ ما الروسية، والتي ترى أن النجاح الاقتصادي شرط لازم لتحقيق التوازن، لكن الشرط الكافي هو تحقيق حضور استراتيجي يسهم في درء المخاطر ويتعامل مع التحديات ضمن أوسع دائرة، وفي أطول مدى ممكن. اقتصاد العدد ١٦٤٤ السبت ٢٥ شباط ٢٠١٢