الصفحة الرئيسية البحث البريد الالكتروني RSS
فلاشات إخبارية
 
تصغير الخط تكبير الخط أرسل لصديق طباعة الصفحة

دراسات وابحاث > تحليل نقدي لقانون البذور المقترح في لبنان: تهديد للسيادة الغذائية والتنوع البيولوجي وسبل عيش المزارعين

٧ ك١ ٢٠٢٥

مقدمة: تحول جذري في التراث الزراعي في لبنان

لآلاف السنين، كانت البذور في لبنان مشاعًا عامًا – إرثًا مشتركًا يُدار ويُحفظ ويُتبادل بين المزارعين عبر الأجيال. تُشكل هذه الممارسة العريقة أساسًا راسخًا لمرونة الزراعة في البلاد، من بساتين الزيتون القديمة إلى حبوبها المحلية المتنوعة. يُمثل القانون المقترح لتنظيم تجارة البذور والشتلات تفكيكًا متعمدًا لهذا التقليد. فبينما يُقدم كأداة محايدة لتنظيم القطاع، فإن هذا التشريع مُصمم لتسويق وخصخصة مورد عام حيوي. تتمثل الفكرة المحورية لهذا التحليل في أن القانون المقترح يُشكل تهديدًا خطيرًا لسبل عيش صغار المزارعين، وسلامة التنوع البيولوجي الوطني، والسيادة الغذائية الشاملة للبنان، مُرسخًا شكلًا جديدًا وخطيرًا من التبعية يُعرف باسم “عبودية البذور”.

 

تقدم هذه الوثيقة تحليلاً معمقاً للعواقب الوخيمة لهذا القانون. وستُفكك الآليات القانونية الإقصائية في جوهرها، وتُقيّم عواقبها الاجتماعية والاقتصادية الوخيمة على المزارعين، وتدرس آثارها الأوسع على الصحة البيئية والأمن القومي. وأخيرًا، ستُقدم إطاراً بديلاً متجذراً في مبادئ السيادة الغذائية، مُحدداً مساراً أكثر عدلاً ومرونة للمضي قدماً. ستتناول الأقسام التالية البنية القانونية المحددة التي تُمكّن من هذه النتائج المدمرة، بدءاً بآليات الرقابة الأساسية للقانون.

 

تفكيك الآليات الأساسية للقانون: من المشاع إلى السلعة

لفهم التهديد الاستراتيجي الذي يُشكله هذا التشريع، لا بد من تحليل إطاره الفني. إن أدوات الرقابة الأساسية للقانون مُضمنة في متطلبات تبدو مُحايدة للتسجيل والتصنيف، وهي مُصممة لإعادة هيكلة نظام البذور في لبنان جذرياً، بعيداً عن نموذج التنوع الذي يقوده المزارعون، نحو نموذج مركزي صناعي يُفضّل مصالح الشركات.

 

يكمن أعمق أثر للقانون في إعادة تعريفه الفلسفي للبذور من كونها ملكًا عامًا مشتركًا إلى سلعة خاصة. تبدأ هذه العملية بتحويل البذور إلى موارد تسيطر عليها الدولة بهدف واضح هو الخصخصة. لا يُعد تركيز السلطة في لجنة حكومية الهدف النهائي، بل هو خطوة وسيطة مدروسة تهدف إلى نزع السلطة من أيدي المزارعين وتمهيد الطريق لسيطرة الشركات.

 

المنطق الإقصائي لمعايير تسجيل البذور المُدارة

يتأصل جوهر السلطة الإقصائية للقانون في متطلبات التسجيل الصارمة، التي تُلزم أي صنف بذور يُتداول في السوق الرسمية بالامتثال لمعايير التميز والتجانس والاستقرار (DUS).

 

التميز: يجب أن يكون الصنف مميزًا بوضوح عن أي صنف آخر معروف.

التجانس: يجب أن تكون نباتات الصنف متشابهة بدرجة كافية في خصائصها ذات الصلة.

الاستقرار: يجب أن تبقى الخصائص الأساسية للصنف ثابتة بعد تكرار التكاثر.

هذه المعايير مصممةٌ بشكلٍ واضحٍ لتفضيل نموذج البذور الصناعية. فهي مُصممةٌ خصيصًا للبذور المتجانسة والموحدة التي تُنتجها الشركات الكبرى، مثل أصناف F1 الهجينة، المُصممة لتلبية هذه المواصفات الدقيقة.

 

على النقيض تمامًا، تُعتبر الأصناف التقليدية والمحلية في لبنان (الأصناف البلدية والوطنية) غير متوافقةٍ مع هذا النظام. هذه البذور المحلية “حيةٌ وديناميكية”، تتكيف باستمرار من خلال الانتقاء الطبيعي الذي يُجريه المزارعون. تكمن قوتها في تباينها وعدم استقرارها – وهي الصفات ذاتها التي يُعاقب عليها نظام DUS ويُصمم للقضاء عليها. بفرضه التوحيد، يُهمّش القانون بشكلٍ منهجي البذور المحلية التي تُشكل أساس التنوع البيولوجي الزراعي في لبنان. هذه الآليات القانونية ليست مُجردة؛ بل هي مُصممةٌ لخلق عواقب ملموسة ومُدمرة على مزارعي البلاد.

 

تقييم العواقب الاجتماعية والاقتصادية على صغار المزارعين

يُشكّل التشريع المُقترح تهديدًا مُباشرًا وفوريًا لسبل عيش المُنتجين الزراعيين الأكثر ضعفًا في لبنان. يفرض إطاره سلسلة من الضغوط المالية والقانونية المصممة لتهميش صغار المزارعين بشكل منهجي، ودفعهم خارج السوق، وتعزيز سيطرة الشركات على النظام الغذائي بأكمله.

 

هندسة التبعية المالية و”عبودية البذور”

يؤدي تفضيل القانون للبذور المملوكة إلى حلقة مفرغة من الديون. تُحضّر بذور F1 الهجينة الصناعية، التي يفضلها نظام DUS، بطريقة تمنع المزارعين من توفير بذور من حصادهم، مما يُجبرهم على الشراء السنوي الإلزامي من شركات البذور. يُوقع هذا النموذج المزارعين في “حلقة مفرغة من التبعية والديون”، وهي حالة تُوصف بدقة بأنها “عبودية البذور”.

 

يُفكك هذا القانون استقلالية المزارعين، ويُحوّل ممارسة الاكتفاء الذاتي إلى مصدرٍ دائمٍ للاستنزاف المالي.

 

الإقصاء المنهجي من خلال العوائق البيروقراطية والمالية

يُنشئ القانون حاجزًا مُصممًا خصيصًا من الأعباء البيروقراطية والمالية التي يصعب على الغالبية العظمى من صغار المنتجين تذليلها. يعمل هذا الإطار كآليةٍ رقابة، تضمن فقط للكيانات الكبيرة ذات رأس المال الجيد أن تشارك في سوق البذور الرسمي. تشمل الأعباء المفروضة ما يلي:

 

إجراءات مُعقدة لمنح التراخيص

متطلبات التسجيل

إجراءات التفتيش

الفحوصات المخبرية

رسوم الترخيص

صُمم هذا الهيكل التنظيمي صراحةً لاستبعاد صغار المزارعين والمشاتل الصغيرة، الذين يفتقرون إلى الموارد اللازمة للامتثال. وبذلك، يُعزز هيمنة الشركات الكبرى على السوق، ويمنحها سلطة التحكم في أسعار البذور، وبالتالي، السوق الزراعية بأكملها.

 

التهديد الوشيك للمخاطر القانونية والوجودية

ومن التطورات “الأكثر خطورة” التي يُسهّلها هذا الإطار القانوني، التوجه نحو منح حقوق الملكية الفكرية للبذور. يُثير هذا الأمر مخاطر قانونية جسيمة تُهدد وجود الزراعة التقليدية. ويتمثل التهديد الرئيسي في التلقيح غير المقصود. فإذا تم تلقيح حقل مزارع من أصناف محلية عن طريق الخطأ بمحصول مجاور من صنف حاصل على براءة اختراع، يُمكن للشركة صاحبة حقوق الملكية الفكرية مقاضاة المزارع قانونيًا ومصادرة محصوله بالكامل.

 

وقد كان لهذا النموذج الاحتكاري عواقب اجتماعية كارثية في أماكن أخرى. فقد ارتبط الضغط الهائل للديون والمخاطر القانونية ارتباطًا مباشرًا بانتحار مئات الآلاف من المزارعين. ويفتح القانون المقترح الباب أمام هذه المخاطر الوجودية نفسها، ممتدًا تأثيره من المزرعة الفردية إلى جوهر صحة وسيادة البيئة في البلاد.

 

آثار أوسع: تآكل السيادة الوطنية والصحة البيئية

تتجاوز عواقب قانون البذور المقترح المزارع الفرد، إذ يُشكل تهديدًا منهجيًا للصحة البيئية الجماعية للبنان، وقدرته على التكيف مع تغير المناخ، وسيطرته الأساسية على نظامه الغذائي. بتأسيسه نموذجًا زراعيًا صناعيًا، يُقيد القانون الدولة في مسار من التدهور والتبعية.

 

ترسيخ التبعية الكيميائية والتدهور البيئي

يعتمد النموذج الصناعي الذي يدعمه القانون على “الحزم التكنولوجية”. تُباع البذور الهجينة المملوكة كجزء من نظام يتطلب استخدام الأسمدة الكيميائية والمبيدات الحشرية المصاحبة لتحقيق إنتاجيتها المعلنة. لهذا الاعتماد المنهجي على الكيماويات الزراعية عواقب بيئية مدمرة، منها:

 

تدهور التربة

تلوث المياه

انخفاض القيمة الغذائية للمنتجات الغذائية

يُضحي هذا النظام بالصحة العامة واستدامة موارد لبنان الطبيعية على المدى الطويل من أجل تحقيق أرباح الشركات.

 

إضعاف القدرة على التكيف مع تغير المناخ بتدمير التنوع البيولوجي

من خلال تقويض وتجريم تداول البذور المحلية المتنوعة بشكل منهجي، يُدمر هذا القانون فعليًا أهم أصول البلاد للتكيف مع تغير المناخ. وكما حذّر الخبراء، فإن “التنوع البيولوجي هو سلاحنا الحقيقي ضد تغير المناخ”. يُعدّ التنوع الجيني الموجود في أصناف البذور التقليدية في لبنان موردًا لا غنى عنه للتكيف مع الأمراض الجديدة والظروف البيئية المتغيرة. إن فقدان هذه المكتبة الجينية يعني فقدان القدرة على ضمان مستقبل إمدادات لبنان الغذائية. في مواجهة هذه التهديدات العميقة، لا يُعدّ تبني رؤية بديلة أمرًا ممكنًا فحسب، بل هو ضروري للبقاء.

 

الإطار البديل: رؤية للسيادة الغذائية

لا يكمن الطريق إلى الأمام في تعديل قانون معيب جوهريًا، بل في تبني نموذج مختلف تمامًا. البديل الضروري هو إطار عمل قائم على مبدأ السيادة الغذائية، والذي يتطلب “تحولًا جذريًا” في النظام الغذائي. يضع هذا النهج حق الناس في تحديد أنظمتهم الغذائية الخاصة فوق المصالح التجارية للشركات. تدعم هذه الرؤية ركيزتان أساسيتان:

 

أنظمة البذور التي يديرها المزارعون (FMSS): يدعم هذا النهج ويعزز الممارسة التقليدية للمزارعين في إدارة البذور وتكييفها وتبادلها بحرية. ويعترف بالمزارعين كمبتكرين رئيسيين وحُماة للتنوع الجيني، محافظين على استقلاليتهم والتنوع البيولوجي الوطني.

الممارسات الإيكولوجية الزراعية (Agroecology Practices): يركز هذا النهج النظام الغذائي على الأفراد والمجتمعات بدلاً من التركيز على رأس المال وآليات السوق التي تُعيق صغار المزارعين.

الهدف النهائي لهذا الإطار البديل واضح، وهو بناء نظام غذائي آمن ومرن للجميع. تُقدم هذه الرؤية مسارًا ملموسًا للخروج من الأزمة التي دبّرها التشريع المقترح.

 

الخاتمة: دعوة لحماية مستقبل لبنان الزراعي

يُعدّ قانون البذور اللبناني المقترح وسيلةً لتسليع التراث المشترك، وهندسة العبودية الاقتصادية للمزارعين، وتآكل التنوع البيولوجي الوطني، وتسليم النظام الغذائي للبلاد لمصالح الشركات. وقد أظهر هذا التحليل أن الآليات الأساسية للقانون مصممة لإقصاء صغار المزارعين، الذين يشكلون العمود الفقري للزراعة اللبنانية، وحرمانهم من حقوقهم، وإثقال كاهلهم بالديون.

 

يقف لبنان عند مفترق طرق، ويواجه خيارًا بين مستقبلين. يؤدي أحد المسارين إلى نظام صناعي يتميز بالتبعية الكيميائية، وسيطرة الشركات، والهشاشة البيئية. أما المسار الآخر، فيقوم على المبادئ الراسخة للسيادة الغذائية والزراعة البيئية، حيث يتم تمكين المزارعين، وحماية التنوع البيولوجي، ومرونة النظام الغذائي.

 

يجب أن نرفض الوعود الكاذبة للنموذج الصناعي. الآن هو الوقت المناسب للمطالبة بالحق الأساسي في إدارة مواردنا المحلية، وحماية تراثنا الزراعي القيّم، وبناء مستقبل تخدم فيه التجارة الحياة المتنوعة على هذا الكوكب، لا الشركات متعددة الجنسيات، ورأس المال، وآليات السوق المعادية لصغار المزارعين.

 

المصدر : موقع الحركة الزراعية في لبنان

الصفحة الرئيسية
الجمهورية الاسلامية في إيران
تعريف عن الاتحاد
موقف الأسبوع
اتحادات صديقة
متون نقابية
المخيم النقابي المقاوم
معرض الصور
أخبار عربية
أخبار دولية
متفرقات
مجتمع
إنتخابات نقابية
بيانات
قطاعات اقتصادية
منصة إكس
تشريعات
مقالات صحفية مختارة
منصة إرشاد
ارشيف
ثقافة وتربية
أنشطة عمالية وأخبار نقابية
القطاع العام
لبنان بلا دستور
صدى النقابات
الأجندة
دراسات وابحاث
مواقف وآراء
نافذة على العدو
فرص عمل
سجل الزوار معرض الصور
القائمة البريدية البحث
الرئيسة RSS

لتلقي الأخبار العمالية

إضغط على أيقونة الواتساب أدناه

 

 

أدخل على حساب الفيسبوك 

 

لمتابعة حسابنا على منصة إكس 

إنقر على الأيقونة أدناه

 

يمكنكم الدخول إلى قناة اليوتيوب

لاتحاد الوفاء بالضغط على الأيقونة أدناه

     

 
Developed by Hadeel.net