دراسات وابحاث > أوباما والاستراتيجية الأميركية الجديدة (2) .........مسيرة التفوق ومسار الانحدار
الوفاء : 26-3-2012
غالب ابو مصلح
ما أسباب الفشل الذي يُظهر أخطاء الاستراتيجية الأميركية العليا؟ على الاستراتيجية العليا أن توائم بين الطاقات المتوافرة والاستهدافات، وأن تقرأ العالم كما هو وليس كما تتمناه، وأن تحسن استقراء المستقبل في دول العالم والمحيط. وقد وقعت الاستراتيجية الأميركية في أخطاء كبيرة، وخاصة منذ أن بدأ الانحدار الأميركي في سبعينيات القرن الماضي، فتفاقم العجوزات المالية والتراجع السريع في حجم الناتج الأميركي كنسبة من الناتج العالمي (من حوالى 50% بعد الحرب العالمية الثانية إلى حوالى 15% اليوم)، أعطت مؤشرات لم تحسن القيادة الأميركية قراءتها. وعملت الولايات المتحدة لمعالجة هذه التطورات عبر الضغوط السياسية والاقتصادية على حلفائها وشركائها التجاريين، لرفع سعر صرف عملات البلدان التي تحقق فوائض في موازين مدفوعاتها مع أميركا، ثم أجبرت تلك الدول على تنسييق سياساتها الاقتصادية معها، ثم بإسقاط ربط الدولار بالذهب والتحول إلى سعر الصرف العائم، وبعد كل ذلك بالانتقال من «الكينزية» إلى الليبرالية الجديدة، وفرض هذه الأيديولوجيا على دول العالم الرأسمالي كافة. وفاقمت الحروب التي شنتها الولايات المتحدة على عشرات الأمم والدول مأزقها الاقتصادي بدل انتشالها من مصاعبها. واندفعت الولايات المتحدة في سياسات امبريالية توسعية على كل المستويات العسكرية والسياسية والتجارية والمالية، مجنّدة المؤسسات الدولية لفرض رؤيتها ومصالحها على العالم، واستطاعت فتح العديد من أسواق العالم أمام صادراتها السلعية المعانة وغير المعانة، وصادراتها الخدماتية والمالية، وأخرجت شركاتها الكبرى مراكز إنتاجها الأساسية، إلى دول العالم الثالث سعياً وراء تخفيض أعباء الإنتاج، ما فاقم البطالة والضغط على الأجور والرواتب، وفاقم نمو الفروقات الطبقية. ولتبرير هجرة الصناعة منها طرحت مقولة دخول عصر «ما بعد الصناعة» (Post Industrial Age). وبما أن الاستهلاك المحلي يشكل قاطرة النمو الاقتصادي الأميركي، ولأن تدهور الأجور والرواتب يضعف الاستهلاك، وبالتالي يضعف النمو، اندفع النظام إلى تنمية الاستهلاك عبر الديون. وها هي أميركا تقف على جبل من الديون يهددها بالسقوط ويدفعها إلى التقشف ومزيد من الضعف والتردي. وبعد سقوط الاتحاد السوفياتي ورفع مظلته عن العديد من دول العالم الثالث، طرحت الولايات المتحدة ضمن متغيّراتها الاستراتيجية مبادئ الحروب «الوقائية» و«الاستباقية» ومفهوم «الاستثنائية» الأميركية لإزاحة كل المعاهدات والمواثيق الدولية وشرائع حقوق الإنسان التي تقف حاجزاً في وجه اندفاعاتها العدوانية والامبريالية، ورفعت إنفاقها العسكري إلى معدلات غير مسبوقة للحفاظ على أحاديتها القطبية للعالم. وقرأت الولايات المتحدة واقعها الاقتصادي ومنحى تطوره بعين التمني والغرور، وبنت استراتيجيتها العليا على فرضيات خاطئة واستشراف خاطئ للمستقبل. فما الذي تسبّب به كل هذا العمى والانبهار بالذات؟ أول هذه الأسباب يعود إلى فكر استعلائي عنصري تكوّن عبر تاريخ الغرب الأوروبي بشكل عام، وتاريخ الولايات المتحدة خاصة. حمل «الأجداد المؤسسون» معهم الفكر التوراتي وخرافة الشعب المختار، والوحشية والقسوة التي ولّدتها الحروب الطائفية في أوروبا مع البروتستانت، وأوهام أرض الميعاد. وظن حَمَلة هذه الميثولوجيا الدينية أنهم العبرانيون الجدد الذين أحلّ الله لهم ذبح السكان الأصليين المسالمين الذين رحّبوا بقدومهم وأعانوهم على الصمود والبقاء أحياء بعد قدومهم. وما زال هؤلاء الانغلو ـ ساكسون البروتستانت البيض يعتقدون بأنهم «شعب الله المختار لقيادة العالم إلى شاطئ الخير» وأن العالم لا يستطيع الاستغناء عن قيادتهم، وها هو أوباما، الزنجي ـ الأبيض يردد هذه المقولة. ويعود السبب الثاني إلى انعدام الديموقراطية في النظام الأميركي وتحكّم الشركات الكبرى والمجمع الصناعي ـ العسكري ـ النفطي بالقرار الرسمي، وبوسائل الإعلام كافة. فالحملات الانتخابية أشبه ما تكون بحملات تسويق بضائع الاستهلاك، تخاطب لاوعي المواطنين، ويفوز فيها عادة مَن يحصل على التمويل الأكبر، ويأتي هذا التمويل من المؤسسات والشركات الكبرى. قرّرت «عصابة النفط في البيت الأبيض» اجتياح العراق طمعاً بثرواته النفطية، فسوّقت هذه المغامرة في الكونغرس، و«شيطنت» وسائل الإعلام الأميركية العراق وخطر نظام صدام حسين على العالم وعلى أمن الولايات المتحدة، وأوهمت الإدارة الأميركية الكونغرس أن الحرب على العراق «لن تدوم سوى أسبوع، وبأنها ستتطلّب أقل من ألف جندي أميركي يتعيّن عليهم البقاء في العراق لستة أشهر فقط، وبأن الحرب لن تكلّف الخزينة الأميركية سوى ملياري دولار، وبأن الأميركيين سيُرحَّب بهم في بغداد كمحررين، وسيُستقبَلون بالزهور في الشوارع»، كما كتب جيمس زغبي. فهل نتج هذا الهراء عن جهل أم عن خداع للذات، أم خداع للغير؟ ويتحدث قادة أميركا ومعظم مثقفيها عن تميّز أميركا بقيمها وأخلاقياتها التي تعطيها ثقلاً كبيراً في العالم. فها هو الرئيس الأميركي الأكثر عقلانية، دوايت إيزنهاور، يقول: «ليست أميركا صالحة لكونها عظمى، بل هي عظمى لأنها صالحة». ولكن العالم يرى «مثل» أميركا في جرائمها عبر التاريخ. والحقائق التاريخية عنيدة لا يمكن محوها أو طمسها. وللشعوب ذاكرة أفيال، وصدى آلام المظلومين والضحايا تنتقل من جيل إلى جيل، ولن يخرسها بعض المثقفين الذين وصفهم مكسيم غوركي بـ«الجراء» التي ترضع من ثدي الامبريالية وتكثر العواء. وتكرر وسائل الإعلام الأميركية أن الولايات المتحدة هي الأقوى في العالم، وتبلغ موازنة البنتاغون مجموع موازنات دول العالم العسكرية، وقواعدها تغطي العالم، وأساطيلها تجوب جميع البحار، ولديها أفضل الأسلحة وأكثرها تطوراً. كل ذلك صحيح تقريباً، ولكن هل هذه مقاييس القوة؟ وهل القوة مطلقة عبر الزمان والمكان؟ أم أن مقياس القوة الحقيقي هو في القدرة على تحقيق الهدف الاستراتيجي في مكان محدد وضمن مهلة زمنية محددة؟ هل كانت أميركا أقوى من الفيتكونغ في فيتنام في سبعينيات القرن الماضي؟ وأقوى من طالبان اليوم في أفغانستان؟ أم أقوى من المقاومة العراقية في الأمس القريب في العراق؟ هل كانت إسرائيل أقوى من المقاومة أو المقاومات في لبنان منذ 1982 حتى اليوم؟ هل أميركا أقوى من إيران في مضيق هرمز، وأقوى من الصين في مضيقي تايوان وملقة وفي بحر الصينالجنوبي؟ إن الحروب غير المتوازية تعطل مقاييس القوة التقليدية ومعنويات المقاتلين، كما معنويات الشعوب المظلومة والمستهدفة وقدرتها على تحمّل الخسائر والصعاب يصعب قياسها، وهذه مصادر أساسية للقوة. وأثبتت النتائج أن التفوّق العسكري الأميركي المطلق هو وهم خادع لقيادة أميركا، يؤدي إلى تسارع تردّيها التاريخي. صحيح أن هناك ترابط متزايد بين الذراع العسكري الأميركي و«المصالح» الاقتصادية الأميركية في العالم، وخاصة مصالح الشركات المعولمة. يتم استعمال القدرات العسكرية للمساعدة على تسويق السلع والخدمات الأميركية وفتح الأسواق أمام تدفّقها، من السجائر وتفاح كاليفورنيا إلى طائرات الـF-16 والمشتقات المالية والنقدية، عبر العالم كله، من اليابان إلى المغرب مروراً بدول مجلس التعاون الخليجي. فنمو القدرات الاقتصادية يدعم نمو القدرات العسكرية، والعكس صحيح. وإذا كان التوسّع الامبريالي الأميركي مربحاً في الماضي فهل ما زال مربحاً اليوم؟ هل مكاسب المغامرات الامبريالية الأميركية اليوم أكبر من أكلافها المادية والبشرية والمعنوية، أم العكس هو الصحيح؟ ومَن يجني الأرباح، ومَن يدفع الخسائر في الداخل الأميركي، وكيف ينعكس ذلك على الانحدار الأميركي والأمن الداخلي؟ على ضوء كل ما تقدم، هل هناك استراتيجية أميركية جديدة؟ يقول أوباما: «الآن نطوي صفحة عقد من الحرب» للتطلّع والاهتمام بالقضايا الاقتصادية. ولكن أوباما لم يطوِ حتى الآن صفحة الحرب في أفغانستان رغم إلحاحه بطلب خطة الخروج من البنتاغون، ولكن البنتاغون لا يصغي كثيراً له، وربما استمر استنزاف أميركا في أفغانستان إلى ما بعد سنة 2014. والخروج من العراق وأفغانستان لا يمثّل استراتيجية جديدة بل هزيمة جديدة للولايات المتحدة. الاقتصاد الأميركي لا يستطيع تحمّل الاستمرار في هذه الحروب، وخاصة بعد انفجار الأزمة البنيوية الدورية في أميركا. وقبل الأزمة، وبالرغم من أن موازنة البنتاغون شهدت زيادات كبيرة منذ سنة 2001، فإن وضع القوات المسلحة ازداد سوءاً. في سنة 2007 كانت القوات الأميركية تعاني من الإرهاق الشديد ومن نقص في المعدات. وصرح كولن باول وزير الخارجية حينها أن الجيش العامل أصبح على شفا الانهيار (About Broken). وقال الجنرال كايتي بايس أمام الكونغرس في بداية سنة 2007 إن قدرة أميركا على معالجة أزمة أخرى في العالم تمّت إزالتها في 2007. وفي تلك السنة اقترح وزير الدفاع دونالد رامسفيلد تغييراً في الاستراتيجية الأميركية لا يختلف كثيراً عمّا يقوله أوباما اليوم. ولكن في سنة 2007 لم تكن هناك ضغوطات اقتصادية هائلة كما هي اليوم لتخفيض موازنة البنتاغون بمبلغ قد يتجاوز تريليون دولار خلال عشر سنوات، الذي يعتبره وزير الدفاع الحالي شبيها بـ«يوم القيامة» بالنسبة للبنتاغون. جديد أوباما أنه يحقق انسحاباً من الشرق الأوسط وآسيا الوسطى من دون إعلان ذلك، وإدارة الظهر لأوروبا، للتركيز على محاصرة روسيا والصين. محاصرة روسيا عبر نشر منظومات من الصواريخ المضادة للصواريخ في بولندا وتركيا وعلى بواخر تجوب مياه البحار الخمسة المحيطة بغربي روسيا. وكذلك حشد إمكانات في أوستراليا وبحر الصين لتثبيت موقع الولايات المتحدة في المنطقة التي ستكون مركز الثقل الاقتصادي في العالم، وحيث من الممكن الحفاظ على سيادة أميركا وقيادتها العالمية. ولكن مسؤولاً صينياً رفيع المستوى تحدث عن أن «انحدار أميركا وصعود الصين أمران حتميان». فأميركا عاجزة عن كبح تقدم الصين. ويقول ليزلي غلب، الرئيس الفخري لمعهد العلاقات الخارجية في واشنطن، إن إعادة التركيز على آسيا مبني حالياً على مجرد كلمات، لأن القادة الأميركيين ما زالوا «يخصصون معظم سياساتهم الخارجية لأفغانستان، وما زالت الولايات المتحدة تعاني من إرث العراق تحديداً... لأنه واحد من أسباب شعورنا بالعجز كدولة هذه الأيام، وأحد الأسباب التي أعتقد أنها ستكون وراء إعادة تركيز جهودنا لفترة من الوقت على الداخل. وتعليقاً على التصعيد الكلامي ضد الصين، قال أحد المسؤولين الأميركيين إنه إذا أرادت أميركا محاربة الصين فعليها أن تطلب من الصين تمويل الحرب!! لكن أوباما (كما صرح لمجلة «تايم» الأميركية) يعتقد أن الولايات المتحدة اليوم أقوى بكثير مما كانت عليه قبل ثلاث سنوات، أي قبل وصوله إلى البيت الأبيض. ويرى في اغتيال بن لادن وعدم إنتاج قنبلة ذرية في إيران من الانتصارات التي تعكس مناحي القوة الأميركية. مَن يستطيع تصديق هذا الكلام؟ يخوض أوباما معركة رئاسة الجمهورية وهو يقود تسارعاً في تردي أميركا على جميع الصعد، شامخ الرأس، مرفوع الجبين، رافعاً شعار النصر، تطبيقاً لاستراتيجية أميركية عليا.