دراسات وابحاث > 2/2 تصحيح الأجور: أزمة الرأسمالية أم أزمة الرأسماليين في لبنان [2/ 2]
الوفاء :26-3-2012
غسان ديبة «إن الاقتصاديين الكلاسيكيين كالهندسيّين الإقليديين الذين لا يرون الانحرافات في العالم خطأ في نظرياتهم بل خطأ في العالم نفسه» جون مينارد كينز إن الأجر في النظام الرأسمالي يأخذ صفتين: الأولى تكلفة في إنتاج المؤسسة الفردية، والثانية كإحدى محددات الاستهلاك أو الطلب الكلي في الاقتصاد. وغلّب الاقتصاديون الكلاسيكيون الصفة الأولى للأجر على أساس أن الطلب الكلي غير مهم في تحديد التوظيف والناتج الاقتصادي. وقد سيطرت هذه النظريات على عقول واضعي السياسات والرأسماليين حتى ثلاثينيات القرن الماضي حين نسف الاقتصادي كينز هذه النظرية ووضع الحاجة إلى تفعيل الطلب الكلي في الاقتصاد أساساً للازدهار والنمو الاقتصاديين. وبعد الحرب العالمية الثانية تبنّت معظم حكومات الاقتصاديات المتقدمة هذه النظرة، وأطلقت مرحلة ما عُرف بالعصر الذهبي للرأسمالية. وفي هذا السياق بدأ الأجر يأخذ صفته الثانية، فزيادة الأجور بالنسبة إلى الرأسماليين كطبقة كانت تزيد الناتج الاقتصادي، وبالتالي تؤدي إلى زيادة الأرباح على الرغم من تراجع حصة الأرباح من هذا الناتج. وقد كان هنري فورد مالك شركة فورد للسيارات أول مَن فهم بشكل بدائي هذه العلاقة ورفع أجور عماله ولذلك عُرفت أيضاً المرحلة الذهبية بالمرحلة الفوردية. بعد أزمة السبعينيات، تبيّن أن نجاح هذا النموذج مرتبط بشروط معيّنة، أهمها عدم تهديده مستوى الأرباح بحيث يهدد بذلك الرأسمالية. وهذا ما حدث في السبعينيات إذ إن تراجع الإنتاجية والوصول إلى العمالة الكاملة أديا إلى تقلّص الأرباح، ما أدى إلى تراجع الاستثمار وتراكم رأس المال، وتبيّن أيضاً تناقض السياسات الكينزية مع الرأسمالية نفسها بعدما أنقذتها من الاشتراكية في منتصف القرن العشرين، وعندها تبيّن أن الكينزية ـــ الفوردية ظرفية وتعتمد على الحالة التي يكون فيها الاقتصاد إمّا عند بطالة مرتفعة وسعة زائدة في الاقتصاد ويمكن تعريفها بحالة كينيزية تقودها الأجور، وإمّا عند حالة اقتراب من العمالة الكاملة وتقلّص الأرباح، أو الحالة الكلاسيكية. وقد عادت الرأسمالية بعد الركود الكبير الأخير إلى الحالة الكينزية، اذ كانت السياسات الكينزية العامل الحاسم في عدم التحول إلى كساد عظيم آخر كالذي شهده العالم بين 1929 و1933، وتم إنقاذ الرأسمالية مرة أخرى وهذا ما يفسّر الاستنجاد بكينز في عام 2008. بالعودة إلى لبنان، فإن زيادة الأجور الاسمية ستؤدي إلى زيادة الأجور الحقيقية، وبالتالي إلى زيادة كلفة وحدة الناتج وانخفاض الربح إلى وحدة الناتج وزيادة حصة الأجور من الناتج. وهذا ما يثير خوف الرأسمالي ــ الفرد من زيادة الأجور. لكن هل هذا يبرر خوف الرأسماليين بما هي طبقة تمثلها الهيئات الاقتصادية؟ طبعاً الجواب يعتمد على أي حالة يقبع فيها الاقتصاد. تدلّ 3 مؤشرات على أن الاقتصاد اللبناني هو الآن في «حالة كينزية» حيث زيادة الأجور الحقيقية ستؤدي إلى زيادة في الناتج وبالتالي في الأرباح رغم تراجع حصتها إجمالاً. المؤشر الأول وهو ارتفاع البطالة التي تبلغ وفقاً لآخر تقديرات البنك الدولي 11%. لكن بالإضافة إلى ذلك تعطي نظرة إلى مؤشرات سوق العمل صورة أكثر قتامة مما تعطيها هذه البطالة الظاهرة المرتفعة. فالهجرة من قبل الشباب الداخلين سنوياً إلى سوق العمل تزداد في ظلّ فجوة في السوق تُقدّر بنحو 15000 وظيفة سنوياً. هذه الأرقام لا تظهر في رقم البطالة الظاهرة وبالتالي تشير إلى حدة الركود في الاقتصاد أكثر حتى من رقم 11%. وأخيراً، فإن أرقام مشاركة الإناث في سوق العمل منخفض جداً، إذ تبلغ نحو 22% وهذا يعني أن لبنان لا يستعمل جزءاً أساسياً من موارده البشرية بسبب هذه الحالة الركودية. أما المؤشر الثاني فهو تراجع النمو الاقتصادي في عام 2011 إلى نحو 1.5%، وهذا ناتج أساساً من تراجع الطلب الخارجي نتيجة تراجع حركة السياحة وتراجع تحويلات المغتربين ومراوحة التصدير. وهذا الطلب الخارجي أصبح ضرورياً جداً للنمو في لبنان اذ إن تراجع الأجور الحقيقية منذ عام 1996 قد أدى إلى تراجع الطلب الداخلي وقد تم تعويضه بفورة التحويلات والسياحة بالإضافة إلى نمو الاستدانة للاستهلاك الخاص. وهنا دخل الاقتصاد في أزمة كبرى بسبب انخفاض الطلبين الخارجي والداخلي في آن. أما المؤشر الثالث فهو الدرجة المنخفضة لحصة الأجور من الناتج المحلي التي تبلغ نحو 25%. وهذا يعكس البعد الكبير للاقتصاد اللبناني عن حالة «انتفاء الأرباح» التي يمكن أن تحصل عند الحدود القصوى لارتفاع الأجور والاقتراب من العمالة الكاملة. الاقتصاد اللبناني، إذاً، هو في حالة تسمح بزيادة الأجور الحقيقية، وبالتالي زيادة الاستهلاك والطلب الداخلي، ما يعيد التوازن إلى مكونات الطلب الكلي، ويشكّل خطة تحفيزية تؤدي إلى زيادة الناتج المحلي وإجمالي الأرباح وحصة الأجور من الناتج. لذلك فإن الرأسماليين كطبقة ستكون مستفيدة على الرغم من أن الرأسمالي ـــ الفرد سيواجه انخفاضاً في معدل الربح إلى وحدة الناتج. لقد أضاع الرأسماليون اللبنانيون فرصاً عديدة في السنوات الماضية واستسلموا أمام سيطرة الريع وأضاعوا مؤخراً فرصة إحداث خرق من أجل تفكيك البنية الاقتصادية المأزومة عند رفضهم مقاربة لجنة المؤشر، وها هم يستعدون لإضاعة فرصة جديدة لإعادة التوازن إلى الرأسمالية اللبنانية المأزومة مما يبيّن أن الأزمة ليست فقط أزمة الرأسمالية اللبنانية بل أزمة الرأسماليين أنفسهم أيضاً.