دراسات وابحاث > الأسس الاقتصادية والاجتماعية للديمقراطية في الشرق الأوسط
نقلا عن موقع الاتحاد الدولي لنقابات العمال العرب أصبح معروفاً أن صيغة الحكومة البرلمانية- الديمقراطية (1) فشلت في أداء وظيفتها بصورة مرضية في الشرق الأوسط. فالانقلابات التي حدثت في السنوات القليلة الماضية دلّت بوضوح على عدم رضا بلدان عدة على حكوماتها البرلمانية وان الجيش قد تسلّم السلطة في اكثر من بلد واحد. لقد تم إرجاع فشل الديمقراطية في الشرق الأوسط إلى أسباب متنوعة جداً، مع أنها ليست غير منسجمة مع بعضها بالضرورة. إن أحد التفسيرات المتداولة في الغرب لهذا الفشل، هو أن الديمقراطية غرسة بطيئة النمو، تطورت في الغرب بصفة تدريجية عِبر قرون عديدة، وفي ظل مناخ ملائم توفر لها في أوربا وأمريكا الشمالية، وليس من المتوقع ازدهارها عند نقل هذه الغرسة إلى تربة شرقية معادية. هذه التربة التي لم تولد منذ فجر التاريخ سوى الطغيان والاستبداد. إن غياب القيم والتقاليد الديمقراطية تاريخياً، وغياب المواقف التي تفضل الديمقراطية، كانت أحد الأوجه التي صاحبت حركة الشرق ولفتتْ انتباه الأوربيين في القرن التاسع عشر. ولم يُعبِّر أحد عن هذه الصورة افضل من اللورد كرومر عندما كتب: علينا أن لا نتصور لحظة واحدة أن الفكرة البسيطة جداً لحكم الطغيان ستكون مستعدة لفسح الطريق أمام مفهوم الحرية المنظمة، الأكثر تعقيداً.(2) وفي منطقة الشرق الأوسط ذاتها، فإن التفسير الأكثر شيوعاً، يضع مسؤولية الفشل على عاتق العوامل السياسية الخارجية كمعوقات لعدم ازدهار الديمقراطية. ويبين هذا الموقف عنوان كتاب شوستر: خنق دولة فارس (ص27) Strangling of Persia Morgan Shuster,.(3) وهنا ثمة مناقشة مفحمة تشير إلى تعذر إمكانية تطور ديمقراطية حقيقية في: مصر, العراق، الأردن، لبنان، سوريا، طالما أن الجيوش المحتلة لبريطانيا وفرنسا تشكل العامل المقرر لكافة القضايا السياسية. وما دامت العلاقات بالسلطة الأجنبية تشغل بال السكان، إن لم نقل تستحوذ عليهم. أما البلدان التي لم تتعرض للاحتلال مثل تركيا وإيران، فلم يكن وضعها أفضل، لأِن كلاً منهما عاش في ظل الخوف من قوتين كبيرتين محتلتين متجاورتين لهما. وأن احدى القوتين أو الأخرى قامت بمحاولات متكررة، غالباً ما كانت ناجحة، للسيطرة عليهما. ثمة تفسير ثالث يسود كلاً من الغرب والشرق الأوسط، يذهب إلى أن الشرق أوسطيين، باستثناء تركيا، عاجزين، بسبب فرديتهم المفرطة، عن تحقيق درجة مطلوبة وضرورية من التعاون المشترك لنجاح مهمة الديمقراطية. فمن الملاحظ أن الشرق أوسطيين لديهم ولاء عميق لوحدات اجتماعية صغيرة معروفة مثل العائلة، الفخذ، العشيرة- القبيلة أو طائفة دينية. ولكنهم غير قادرين، كما يبدو، على تجاوز تلك المجموعات الصغيرة والانتقال والتعاطف في ولائهم مع كيانات اكبر، مثلاً مدينة- دولة- شعب، بما يتطلبه هذا التعاون من جهد ملائم وشعور بالمسؤولية بإخضاع النزعات الفردية الأنانية لصالح هدف عام مشترك. بكلمات أخرى، أن الإرادة المشتركة، الهادفة إلى الصالح العام، تبدو غائبة، وبغيابها يضيع أي أمل لتفعيل الديمقراطية. وربما أن افضل تصوير لهذا الوضع هو ما عبَّر عنه ابن خلدون- عالم الاجتماع الأكثر شهرة- الذي درس المنطقة أيضاً بقوله: كل عربي يعتبر نفسه جديراً بالحكم، ومن النادر إيجاد أي فرد يفضل الآخر على نفسه، عدا أن يكون الأب، الأخ، رئيس العشيرة. وحتى في هذه الحالة فهو يفعل ذلك متذمراً ومتخوفاً من كلام الناس(4). يتضمن كل من الآراء الثلاثة المذكورة بالتأكيد قدراً كبيراً من الحقيقة. وعند أخذها في الاعتبار معاً، فهي تقدم تفسيراً كافياً لنواقص الديمقراطية في الشرق الأوسط. ومع ذلك يظهر من المناسب لفت الانتباه إلى مجموعة أخرى من العوامل، كان لها أيضاً تأثيرها العميق، متمثلة بالعوامل الاجتماعية (السيسولوجية). وباختصار، وحسب قناعة كاتب المقالة، فإن الديمقراطية لن تنتعش في الشرق الأوسط حالياً(5)، لأِن الأسس الاقتصادية والاجتماعية التي تتطلبها الديمقراطية غير قائمة بعد. وهذه الأسس تتضمن الجوانب التالية: حجم الإقليم والسكان، مستوى التنمية الاقتصادية، توزيع الثروة، التصنيع، التجانس اللغوي والديني، درجة التعليم، وقيم المشاركة التعاونية. وفي هذه الورقة، سيتم تبني الخصائص الاقتصادية والاجتماعية المشتركة التي تجسد تطبيقاً ناجحاً لمسيرة الديمقراطية في الدول المتقدمة(6)، كمعايير yardsticks لقياس مدى تطور التنمية في دول الشرق الأوسط. ومن الضروري طرح فرضية رئيسة واضحة من شأنها أن تضع الأساس للمناقشة التالية: لكي تتطور المؤسسات الديمقراطية، وتزدهر القيم الديمقراطية، لا بد من توفر شرطين ضروريين: أن يسود تكافل اجتماعي social solidarity قوي، وفي نفس الوقت أن يضم المجتمع تنوع diversity كاف لتوليد التفاعل (التوتر) tension بين مكوناته. ففي غياب التكافل، فإن المجتمع يقع تحت تهديد الانحلال disintegration وتصبح الحكومة الديمقراطية ضعيفة جداً للامساك بهذه الأجزاء مع بعضها، ويبرز اتجاه متين لظهور حكومة قوية مستبدة. من جهة أخرى، ما لم يتواجد تنوع وتفاعل باتجاه صدام الأفكار والمصالح لمختلف المجموعات، فليس من المحتمل إنشاء رقابة فعالة effective check على سلطة الحكومة.
في أوربا الغربية خلال القرون الثلاثة أو الأربعة الأخيرة، وفي مجتمعات ما وراء البحار التي انطلقت sprang منها، فإن القوة الصلدة تجسدت في فكرة "الوطنية" nationalism. هذه الفكرة التي أخذت تنتشر بشكل واضح ولا زالت قوية، أصبحت حاضرة في الوجدان منذ القرون الوسطى، رغم أنها لم تصبح فكرة واضحة إلا حديثاً ولم تتقو إلا في فترة اكثر حداثة. فالتوترات تولدت أولاً عن الاختلافات الدينية التي أعقبت حركة الإصلاح الديني (البروتسستانتي) في القرن السادس عشر، وثانياً عن التناقضات الاقتصادية والاجتماعية، حيث ولّدت التطورات التجارية أولاً ثم التطورات الصناعية، طبقات اجتماعية جديدة تحدّتْ الطبقة القديمة من الارستقراطيين النبلاء ملاك الأرض. حجم السكان والاقليم أياً كانت الأخطاء الموضعية التي وقع فيها، فإن ارسطو كان محقاً، من حيث الجوهر، عندما ذكر: أن "الدول كمثل الأشياء الأخرى، محكومة بمعيار محدد من الحجم. فكل شيء يفقد قدرته على أداء وظيفته إذا كان حجمه صغيراً جداً أو كبيراً جداً". والأكثر من ذلك فإن التجارب تشير إلى صعوبة، إن لم نقل استحالة، قدرة الدولة كثيفة السكان أن تؤمن ميلاً عاماً لإطاعة القانون.(7). فمع استثناء الولايات المتحدة وكندا واستراليا، حيث ستكون محل مناقشة لاحقة، لا توجد بين الدول الديمقراطية دولة تتصف بالسعة الكبيرة. تعتبر فرنسا من بين تلك الدول الأكبر مساحة (200 ألف ميل مربع) بينما البقية هي بالتأكيد اقل مساحة واقل سكانا. ومرة أخرى، باستثناء الولايات المتحدة وبريطانيا، ليس بين هذه الدول واحدة تضم اكثر من خمسين مليون نسمة، وان أغلبيتها تضم دون العشرة ملايين من السكان. من المناسب بحث حالة دول الشرق الأوسط بالمقارنة مع تلك الديمقراطيات وبالعلاقة مع حجم السكان والمساحة. فقط باكستان بسكانها ألـ 75 مليون نسمة تُصنف ضمن عمالقة العالم في سكانها. بينما لا يتعدى السكان في بقية الدول ألـ 25 مليون نسمة، وان العديد منها تضم اقل من خمسة ملايين نسمة. من هنا لا يمكن الحكم على ان حجم السكان في بلدان الشرق الأوسط، من حيث المبدأ، هو في مستوى ضاغط لفرض عقبات كبيرة في طريق العملية الديمقراطية. في الواقع، ومن وجهة النظر الاقتصادية، فإن العديد منها صغيرة جداً لإقامة سوق قادرة على توليد نظام تقسيم عمل ملائم لضمان تحقيق دخل وطني ومستوى معيشي عال، هذه الحقيقة التي ستظهر لاحقاً، تفرض ثقلها على الحياة السياسية في هذه البلدان. ومع ذلك، فما يستحق الذكر هو أن الديمقراطيات الكثيفة السكان، كالمملكة المتحدة وفرنسا، نجحت في تطوير حكوماتها الدستورية في وقت كان سكانها يشكل جزءاً من السكان الحاليين. بل وحتى حققت بناء الصيغة الديمقراطية للحكومة في وقت شكل القاطنون فيها فقط جزءاً صغيراً من السكان في الوقت الحاضر. ومن ناحية المساحة، فإن بلدان الشرق الأوسط ليس في وضع ملائم جداً. فمساحة العراق بقدر مساحة فرنسا الحالية تقريباً، بينما مساحة كل من أفغانستان وتركيا اكثر بالتأكيد، في حين تزيد مساحة باكستان مرتين،(8) وإيران ثلاث مرات ونصف، والسعودية أربع مرات تقريباً، على مساحة فرنسا. يظهر أن التجربة تؤيد الفرضية القائلة أن ضخامة مساحة الدولة تقف عقبة في طريق تحقيق الديمقراطية. ذلك لأِنها، في المقام الأول، تتجه نحو تعزيز الإقليمية regionalism، فالانقسامات السياسية في كل من فرنسا وألمانيا اتجهت نحو الخطوط الإقليمية على نحو أسرع بالمقارنة مع بريطانيا، في حين أن الاختلافات الإقليمية في الولايات المتحدة ولّدت حرباً أهلية كارثية واستمرت في إرباك السياسات الوطنية. وفي بلد كبير متنوع مثل إيران، فإن الاختلافات الإقليمية أسست عاملاً سياسياً هاماً حتى على افتراض أن السكان تميزوا بتجانس كامل، وهو افتراض غير قائم بالطبع، ونفس الشيء صحيح في حالة باكستان، تركيا، أفغانستان، والعراق. يعتبر العامل الثاني اكثر جوهرية. ففي اي مرحلة معطاة للمعرفة التكنولوجية technical Knowledge هناك قيود محددة على قدرة الحكومة ممارسة رقابتها بفعالية في إطار إقليمها والتي تتضاءل مع امتداد المسافات المكانية. وكما صاغها ابن خلدون: لكل دولة نصيبها الخاص من المساحة لا يمكن أن تتجاوزه. فالدولة هي أقوى في المركز منها في الأطراف، ضعيفة عند حدودها، وتصبح غير فاعلة خارجها، كمثل حزم الإشعاعات الضوئية التي تنبثق من المركز أو مثل الحلقة الدائرية التي تظهر فوق سطح الماء لتتسع وتتسع على نحو اضعف لغاية اختفائها(9). وتتطلب الحكومة الديمقراطية المسؤولة توفر شرط إضافي ضروري، صاغه ارسطو على النحو التالي: إن مواطني الدولة يجب أن يعرفوا طباع بعضهم البعض(10). ويمكن وضع هذا القول بشكل ملائم على النحو التالي: في ظروف تتصف بدرجة عالية من نقص وسائل الاتصال، فإن مساحة العديد من دول الشرق الأوسط كبيرة جداً بحيث لا تسمح بتكوين حكومة فعالة، دعْ عنك حكومة ديمقراطية. الجدول التالي يضم مؤشرين: كثافة السكك الحديدية على أساس طول الخط لكل وحدة من المساحة والسكان، وعدد الراديوات لكل شخص، أما وسائل الاتصال الأخرى مثل الطرق، التلغراف، والتلفونات فهي ليست اكثر تطوراً. وسائل الاتصال في دول الشرق الأوسط الرئيسة وعدد من الديمقراطيات الغربية المختارة (11) ــــــــــــــــــــــــــــ الطــــــرق الحــــــديـــــديـــــة بــــــالكـيلومترات عدد الراديوات المسجلة
الدولة المختارة لكل 100كم مربع من المساحة الكلية لكل 100 شخص لكل 1000 شخص أفغانستان 00 00 1 مصر 0.61 3.2 11 إيران 0.19 1.9 11 العراق 0.34 3.2 6 الأردن 0.37 8.3 2 لبنان 4.50 3.5 33 باكستان 1.23 1.5 1 سوريا 0.67 2.5 11 تركيا 1.00 4.0 15 استراليا 0.59 55.6 258 كندا 0.75 65.2 189 بلجيكا 29.03 10.6 164 فرنسا 7.55 10.4 172 السويد 3.88 21.4 307 المملكة المتحدة 23.33 12.0 245 الولايات المتحدة 5.13 26.7 600 أرغواي 1.61 13.1 125
ربما يثور اعتراض مفاده أن الولايات المتحدة وكندا واستراليا نجحت، على نحو مرض جداً، إقامة حكومات ديمقراطية على مساحات أوسع بكثير من تلك الدول الأكثر مساحة في الشرق الأوسط. هذا صحيح ولكن يمكن تفسير ذلك بسهولة من خلال التباين في الخلفية الحضارية التاريخية. فالبنسبة لكافة الدول الثلاث، فإن الحكومة الدستورية أقيمت في مرحلة مبكرة جداً، غطت المستوطنات colonies التي كانت صغيرة المساحة وضئيلة السكان، وأن الحكومة المسؤولة أقيمت أولاً على مستوى الولاية State والمحافظة, في كيانات مثل Massachusetts و Lower Canada و New South Wales. وبعد استقرار الحكم الديمقراطي، أقدمت هذه الولايات أو المحافظات على التجمع في اتحاد اكبر مع بعضها. ومن المشكوك فيه أن الاتحاد كان سيصمد (كما في الولايات المتحدة أثناء فترة الحرب الأهلية) أو انه كان سيقوم أصلاً (كما في كندا واستراليا) لولا التطور السريع في الطرق الحديدية والتلغراف. أما في الشرق الأوسط، على أي حال، جاءت محاولة إقامة الديمقراطية ابتداءً على المستوى الوطني لتشمل مساحات واسعة كانت تعاني من نقص وسائل الاتصال communication. إن نظرة سريعة على الماضي غير البعيد، أربعين عاما مضت، عندما كانت معظم أجزاء الشرق الأوسط غير المستعمرة من قبل الغرب تعود إلى دولتين كبيرتين، الإمبراطورية العثمانية وإيران، وعندما كانت نظم الخطوط الحديدية والطرق تغطي بضعة آلاف من الأميال فقط، تكشف لماذا، حتى فترة متأخرة، كانت مسألة تواجد مجرد حكومة فعالة، بغض النظر عن حكومة ديمقراطية، أمراً مستحيلاً. البنية الاقتصادية يمكن دراسة تأثير البنية الاقتصادية في العملية السياسية politics من ثلاثة محاور تالية: مستوى الدخل الوطني.. توزيع الثروة والدخل، والهيكل الوظيفي/ المهني. لقد قيل ان الديمقراطية هي ابنة الرفاه، ومن المؤكد أن تطور الديمقراطية ارتبط، أولا،ً بشكل حميم بتوسع الرأسمالية، وثانياً يمكن استنتاج علاقة ترابطية قوية جداً بين ارتفاع متوسط الدخل الفردي ونجاح العملية الديمقراطية. إن نظرة فاحصة على متوسطات الدخول الفردية السنوية الصادرة عن الأمم المتحدة تشير إلى أن الخمسة عشر بلداً التي تتمتع بأعلى الدخول المتوسطة الفردية السنوية تتسلسل كما يلي: الولايات المتحدة، كندا، نيوزيلندة، سويسرا، السويد، المملكة المتحدة، دانمارك، استراليا، النرويج، بلجيكا، لوكسمبرج، هولندة، فرنسا، ايسلندة، وايرلندة.(12) وبعبارة أخرى، خمسة عشر دولة من الدول السبع عشرة المذكورة أعلاه. كما أن متوسط الدخل السنوي للأقل غنى من هذه البلدان: ايرلندة، بلغ 420 دولار، بينما بلغ هذا المتوسط في 12 من ألـ 15 بلدا اكثر 500 دولار للفرد. في حين لم يكن بين بلدان الشرق الأوسط، عدا لبنان وتركيا، من حقق دخلاً فردياً يتجاوز في المتوسط السنوي ألـ 100 دولار. وحتى في حالة اخذ كل التحفظات في الاعتبار لكونها ضرورية في أية مقارنة دولية، من الواضح أن هناك اختلافاً واسعاً في المستويات الحقيقية للدخول بين بلدان الشرق الأوسط وبين الديمقراطيات الغربية.(13) ليس من الضروري إعادة تكرار ما قيل عادة: فقط عندما يحقق المواطنون إشباع حاجاتهم الضرورية عندها يستطيعون أن يجدوا الوقت والطاقة للمشاركة بفعالية وبراعة في العملية السياسية. فإذا لم يتضاعف دخول المواطنين مرتين أو ثلاثة، فالناس وهم مضطرون للبحث عن إشباع حاجاتهم اليومية الضرورية سيكونون باستمرار فريسة prey لكل ديماغوغي يعد بمساعدتهم وتحسين أحوالهم. إن المستوى الكلي للدخل الوطني ليس، على اي حال، المعيار الوحيد، إذ أن توزيع هذا الدخل لا يقل أهمية. أن الثروة هي القوة power وان تركيز الثروة في أيدٍ قليلة يعني أن مجموعة صغيرة فقط ستكون قادرة على ولوج السياسة (أي الحصول على السلطة authority/المترجم) وضمان القوة. في حين أن جمهور الناس ممن يفتقرون إلى الاستقلال الاقتصادي يفتقرون للموقع المناسب لممارسة حقوقهم السياسية. وهذه المسألة أصبحت واضحة منذ عهد افلاطون الذي نشر فكرته في كتابه Laws وذكر (ص32): في الدولة المثالية ideal commonwealth لا يجوز لثروة أغنى الناس أن تتجاوز أربعة أمثال ثروة أفقرهم. كما ولوحظ في الغالب ومنذ انبثاق البرلمانات في العصور الوسطى، بل وحتى منذ فترة الاغريق القدماء، أن الحكومة الديمقراطية قامت على أكتاف الطبقة الوسطى، من هنا ليست مصادفة أن أكثر الديمقراطيات الخالصة: سويسرا, نيوزيلندة، والبلدان الاسكندنافية تتمتع بِأعلى قدر من المساواة في توزيع الثروة. تتوفر قلة من البيانات المتعلقة بتوزيع الثروة والدخل في بلدان الشرق الأوسط، لكن الخطوط الرئيسة لهذه القضية تبقى قاتمة جداَ. هناك دراسة عن وضع مصر قبل الحرب أظهرت أن الفجوة بين ابعد حدين واسعة للغاية مقارنة بِأي من الحالات الأوربية التي سبق بحثها،(14) ومنذ ذلك الوقت، فإن سرعة التضخم فاقت كل محاولات تقليص عدم المساواة، هذا إن حصلتْ أصلاً. في لبنان، باكستان، وتركيا فإن الوضع افضل بدرجة واضحة, ولكن في بقية بلدان الشرق الأوسط يسود نفس النمط من عدم المساواة. وهنا يرد القول المتكرر في الغالب من أن هذه البلدان تفتقر إلى الطبقة المتوسطة، وهو حكم غير صحيح في شكله المبالغ فيه، ولكن يوضح أحد عناصر الضعف الرئيسة في المنطقة. من هنا أيضاً انحصرت الهيمنة السياسية في هذه البلدان بملاك الأرض لغاية فترة متأخرة.(15) العامل الاقتصادي الثالث الذي يتطلب أخذه في الاعتبار هو الهيكل الوظيفي/المهني. حيث يظهر أن الديمقراطية تزدهر فقط عندما تساهم نسبة مرتفعة من السكان في الصناعة والتجارة، إذ يظهر انه من غير الممكن إنجاز المعالجات الجذرية في بلد ذات أغلبية زراعية.(16) ويظهر أن هذا التعميم يمكن أن يكون صحيحاً في دول المدن القديمة في أثينا وجمهوريات القرون الوسطى مثل فلورنسا، وكذلك في الدول الوطنية المعاصرة مثل المملكة المتحدة والدانمارك. ربما أن أفضل الأرقام القياسية للتطور الصناعي والتجاري المتاحة لأِغراض المقارنات الدولية هي نسبة المشتغلين من السكان في الزراعة. ان جدولاً صادراً عن منظمة الغذاء والزراعة الدولية(17) يوفر النسب التالية للفترة 1939-1949: المملكة المتحدة 4%، الولايات المتحدة 13%، استراليا 15%، نيوزيلندة 20%، سويسرا 20%، السويد 21%، كندا 24%، دانمارك 27%، فرنسا 36%، فنلندة 50%. كما أن بيانات ما قبل الحرب متوفرة لمجموعة أخرى من البلدان التي تفتقر إلى بيانات اكثر حداثة, ففي الفترة 1926-1939، عندما كان مستوى الاستخدام في الزراعة في كل مكان أعلى منها مقارنة بالفترة 1939-1940 فإن نسبة المشتغلين من السكان في الزراعة بلغت في بلجيكا 17%، هولندة 20%، النرويج 26%، وايرلندة 49%. إن المقارنة الوحيدة لذات البيانات في الشرق الأوسط تشير إلى أن اكثر البلدان الصناعية في المنطقة، مصر وتركيا، بلغت نسبة المشتغلين في الزراعة 70% و 82% على التوالي خلال الفترة 1926-1939. ومنذ ذلك الوقت تطورت الصناعة في البلدين إلى حد بعيد، ولكن أياً منهما لم ينجح في سحب أي فائض من سكان الريف. وبالنسبة إلى بقية بلدان الشرق الأوسط أن النسبة في لبنان فقط أقل منها في مصر، ويعود الفضل في ذلك إلى أن الجزء القائد الذي مارس دوره في الاقتصاد هو التجارة، السياحة، والخدمات، وفي كل بقية البلدان لا زالت نسبة العاملين من السكان في الزراعة عالية. إن التصنيع وتطور التجارة والخدمات الأخرى تؤثر في الحياة السياسية بطرق عديدة. أولاً، أنها جميعاً تساهم بقوة في زيادة الدخل الوطني. ففي كافة البلدان، تقريباً، التي تم الحصول على بياناتها يتجاوز متوسط الدخل الفردي السنوي في الصناعة مثيله في الزراعة، في حين أن هذا الدخل في التجارة والخدمات الأخرى اكبر منه في الصناعة.(18) فالبيانات المتوفرة عن مصر، لبنان، وتركيا تبين أن متوسط الدخل الفردي السنوي في الصناعة يزيد مرتين عنه في الزراعة،(19) وان الفجوة بين الزراعة والخدمات، هي اكبر في البلدان المتقدمة.(20) فقط في تلك الدول ذات السكان القليل والمتناثر sparsely populated countries مثل استراليا، الأرجنتين، نيوزيلندة، وكندا فإن الزراعة المهيمنة فيها نجحت في توفير مستوى عال من المعيشة، وحتى هنا، كما تبين، أن الوزن السكاني لم يعد كبيراً في الزراعة. إن التصنيع والتجارة كذلك تعزز الديمقراطية بطريقة أكثر مباشرة. فسحب الفلاحين بعيداً عن الأرض، يسهم حالاً في إضعاف قوة مالكي الأرض ويقود إلى خلق طبقتين جديدتين، الطبقة الوسطى وطبقة العمال الصناعيين. إن مجتمعاً يضم أساساً طبقتين مهيمنتين: ملاك الأرض والفلاحين، لا يمكن أن يأمل باحتمال تطور المؤسسات الديمقراطية. كما أن انبثاق المجموعات الأخرى، على أي حال، تمنح الديمقراطية مفاصل مؤكدة certain articulation، وتظهر مصالح جديدة في الساحة ومعها محاور فكرية جديدة. إن كفاح الطبقة المتوسطة للمشاركة في الحكومة هو المصدر التاريخي لأِغلب الديمقراطيات الحديثة- بل وحتى للديمقراطية التي ظهرت في التاريخ القديم والمرحلة الإقطاعية. وطالما أن الطبقة الوسطى لا تستطيع عادة بلوغ غاياتها في غياب الطبقة العاملة في المدن، فإن الأخيرة ترنو إلى شيء من المشاركة في المنافع.(21) وأخيراً يحدث غالباً أن كلاً من أصحاب مصالح الأرض والبرجوازية تتنافس من اجل كسب دعم الفلاحين، الأمر الذي يتيح زجهم (الفلاحين) في الحياة السياسية. إن المظهر المتميز لهذه العملية هو التمدن urbanization، ومع تركز أعداد كبيرة في المدن، فهذا سيقود إلى مضاعفة اتصالاتهم الاجتماعية، ويحفز التصنيع من جهته فئة المثقفين والمفكرين intelligence وتنشط البراعة والقدرة السياسية. لذلك فليست صدفة أن الديمقراطية ازدهرت دائماً في بيئة مدنية: أثينا، فلورنسا، جنيف، لندن، باريس، وبوسطن. وفي نفس الوقت يتوجب ملاحظة أن المدن الأوربية في الماضي كانت اقرب الى محيطها الريفي مما كانت عليه مدن الشرق الأوسط، من هنا أصبحت الأفكار الديمقراطية في تلك المدن الأوربية قابلة للانتشار بسهولة اكبر. التجانس الوطني، اللغوي، والديني من المتفق عليه، بعامة، أن غياب التجانس الوطني واللغوي يقود إلى خلق سلسلة معوقات أمام عمل الحكومة الديمقراطية.(22) إن الحركات الوطنية في سكوتلندا وويلز لا تمثل سوى مفارقات تاريخية محدودة وفريدة. ونفس الشيء يمكن أن يُقال عن الحركات الوطنية في Breton و Provencal. ومع ذلك فإن الصراع في بلجيكا بين الفلاندر Flemings (مقاطعة بلجيكية يتحدثون اللغة الفَلَمنكية الجرمانية/المترجم) وبين الولون Walloons (منطقة بلجيكية مجاورة لفرنسا يتحدث أهلها اللغة الولونية الفرنسية/المترجم) تسبب، في الغالب، في اهتزاز سفينة الدولة بصورة خطيرة. وفي جيكوسلوفاكية، لم تفلح حتى قيادة كل من Masaryk و Benes في منع الشجار بين الجيك، السلوفاك، الألمان، و Ruthenians وخروجه إلى العلن. ويهيمن الصراع بين العناصر الفرنسية والبريطانية على الحياة السياسية في كندا، بينما تتشوه الحياة السياسية في الولايات المتحدة كنتيجة لإبعاد المجموعات الاثنية عن مركز القرار. في حين أن النجاح الباهر للاتحاد السويسري بالتحام مجموعاتها الرئيسة الثلاث هو اكثر جلاء لأِن سويسرا الدولة الفريدة من نوعها. وفي هذا المجال تختلف الظروف بشكل واسع في الشرق الأوسط.(23) أن مصر، الأردن، شبه الجزيرة العربية، لبنان، وسوريا متجانسة تماماً أو أنها لا تضم سوى أقليات وطنية غير مؤثرة. وان الجزء الوحيد ذات الوزن من غير العرب في هذه البلدان هم الأكراد (بحدود000ر120) في سوريا، والأرمن (000و150) في سوريا ولبنان، وليس لأِي منهما اية مشكلات حقيقية. ولكن في العراق يشكل الأكراد بحدود خمس السكان، وهناك أيضاً مجموعات صغيرة من الإيرانيين، التركمان، الآشوريين. بينما أصبحت تركيا بدرجة واسعة "متجانسة" بعد تصفية أقلياتها الأرمنية واليونانية، لكنها لا زالت تضم بوضوح جزءاً كبيراً من السكان الكرد، قُدر ما بين 5ر1(24) إلى 0ر2 مليون.(25) وتضم إيران العديد من الأقليات اللغوية متضمنة أتراك أذربيجان (حوالي 5ر1 مليون)، تركمان، كرد (بحدود 000ر800)، عرب (000ر300) وأرمن.(26) وفي أفغانستان هناك اختلافات مهمة بين الافغان المتحدثين البشتو Pushtu، المتحدثين بالفارسية من الطازجك Tajiks، والمتحدثين بالتركية الازبكيةUzbeks، وأن مهمة الاندماج الوطني معقدة بالعلاقة مع هذا العامل. الحالة في باكستان صعبة التأكيد، لكن التوترات بدأت تعبر عن مجموعتين: القاطنين غرب البلاد من المتحدثين بالاردو Urdu والقاطنين في شرقها المتحدثين البنغالية، حيث كانتا مجموعتين منفصلتين وعلى مسافة آلاف الأميال في البلاد الهندية.(27) ليس من الضروري التمعن طويلاً في تأثيرات المجموعات الأقلية المتواجدة، طالما أن الباحثين جميعاً في شؤون الشرق الأوسط يتفقون على أنها تضع عقبة ضخمة أمام إقامة وتطوير حكومة فعالة. قد يُقال بالطبع أن الأقليات تعتبر مشكلة فقط بسبب أن الحكومات لم تتبنَّ سياسات مناسبة لإدماج هذه الأقليات في مجتمع متعدد القوميات. وهذا الرأي صحيح جزئياً، لكنه يغفل حقيقة أن وجود هذه الأقليات يضيف عقبة أخرى للعقبات الكثيرة التي تواجه بناء حكومة ديمقراطية في الشرق الأوسط. ففي العراق خلقت مشكلة الكرد الاحتكاك friction وأدت في مناسبات عديدة إلى إشعال الصراع المسلح. وكان هذا الاحتكاك اكبر في تركيا، ومورس القمع على نحو اكثر قسوة في شرق البلاد لفترة طويلة، مثلاً ظلّت المحافظات التي تتسم بِأغلبية كردية تحت الحكم العسكري. بينما يلاحظ أن أفغانستان في مرحلة مبكرة جداً من بناء الدولة الوطنية.(28) أما في إيران فيهددها خطر التقسيم disintegration بين حين وآخر، حسبما أعلنتها بنشاط الحركات الانفصالية الاذرية والكردية عام 1945، علاوة على الحركة الانفصالية العربية في خوزستان بعد الحرب العالمية الأولى. ولم تتم المحافظة على وحدة البلاد إلا بفضل المذهب الشيعي الذي يعتنقه معظم الإيرانيين، والذي شدّهم إلى بعض، أولاً، وميّزهم بحدة عن جيرانهم السنة، ثانياً. ومما زاد من حدة مشكلة الأقليات في الشرق الأوسط حقيقة أن أقليات قومية عديدة لا زالت قائمة على بنية قبلية، سائدة في المجتمع أساساً. وهذا صحيح بالنسبة إلى اكراد: العراق، إيران، تركيا، وكذلك التركمان، والقفقاز الناطقين بالتركية في إيران، وعلى الأفغان الهنود Pathan في باكستان وعلى كل المجموعات الرئيسة في أفغانستان. إن وجود أجزاء كبيرة من رجال القبائل يمثل في الواقع عقبة كأداء في وجه اي حكومة مركزية تحاول إنشاء إطار عمل لنشر النظام على مستوى كل البلاد وسن التشريعات القانونية لكافة أجزائها. وهذه المشكلة، أيضاً، لا تتطلب إمعان النظر فيها هنا لأِنها شُخصت تماماً وغالباً ما نوقشت من قبل خبراء الشرق الأوسط. وفي حين يدرك كل الباحثين، بشكل خاص، ان تعايش اكثر من مجموعة قومية يفرض قيودا شديدة على الدولة, لكنهم ليسوا بهذا الوضوح بالنسبة للمجموعات الدينية. في الواقع غالباً ما تم التأكيد على أن الحرية والديمقراطية المعاصرة مدينة في وجودها للتنوع الديني. وهنا من المفيد الاقتباس عن واحد من المفكرين العديدين ممن أعطوا هذه القضية اهتمامهم بقوله: إن الحرية السياسية، كحقيقة في العالم المعاصر، هي حصيلة لصراع التنظيمات الدينية من اجل البقاء(29). ولكن قد يصح القول بِأنه لولا الإصلاح الديني Reformation والصراع الديني الذي نشأ فيما بعد، فإن الكنيسة الكاثوليكية الشمولية في القرون الوسطى، لم تكن لتفسح الطريق أمام دولة علمانية معاصرة مقيَّدة. ويصح القول أيضاً وبنفس القدر، انه ما أن ترسّختْ تلك الدولة، فإن وجود أقليات دينية كبيرة فيها لم تساعد، بل وربما أعاق في الغالب، الديمقراطية السياسية. إن الصراع بين الكاثوليك والبروتستانت كاد أن يحطم الاتحاد السويسري، ووضع قيوداً شديدة على كل من ألمانيا وهولندا، في حين أفسد الصراع بين الكاثوليك وبين الجماعات غير المتدنية anticlerical الأمور السياسية في نصف أوربا. إن أحد الأسباب الرئيسة للاداء السلس للنظام الديمقراطي في البلدان الاسكندنافية هو تجانسها الديني والقومي. وفي الوقت الحاضر، وفيما عدا شبه الجزيرة العربية وتركيا الحديثة، فإن الشرق الأوسط عبارة عن موزائيك حقيقي من الأديان. كما أن حقيقة كون الكرد والعرب والتركمان من المسلمين السنة إنما تميزهم اكثر عن الشيعة الإيرانيين. وتضم باكستان 15% من الأقلية الهندوسية والسيخ، علاوة على توزيعات السكان بين الشيعة والسنة. بينما في العراق يكثر تواجد الشيعة كما هو حال السنة. وتتواجد في البلدان العربية الأخرى أقليات مسيحية مهمة تشكل: 7% من السكان في مصر، حوالي 8% في الأردن، و 12% في سوريا، وان الطوائف الإسلامية في الأخيرة (سوريا) متنافرة تضم 15% من السكان. أما بالنسبة إلى لبنان فيمكن القول أنها لا تضم شيئاً سوى الأقليات التي تشمل سبع طوائف قائدة: أكبر هذه الطوائف المارون ويمثلون 30% من مجمل السكان، وأصغرها الأرمن الارثذوكس وبنسبة اقل من 6%. لكن المسألة ليست قاصرة على الإحصاءات فقط، الأكثر أهمية هو تباين المواقف الدينية بين الغرب والشرق الأوسط. ففي الغرب تم بنجاح ضبط الآثار التقسيمية centrifugal للتنوعات الدينية بواسطة القدرة على التوحيد centripetal force بفعل الفكرة الوطنية. وكما عبرت عن ذلك Hilairi Belloc ، ولو على نحو فظ، بقولها: الفلسفة التي سادت تجسدت في: اعبد وطنك وعندئذ اعتنق ما تشاء من الآراء.(30) من جهة أخرى، لا زال الدين في الشرق الأوسط يشكل القوة الاجتماعية الأعظم والعامل الأكبر لإطلاق نار الغضب الجماهيري. ففي الماضي بعد حركات العنف خلال القرون القليلة الأولى، كان الإسلام السني يشكل القاعدة السمنتية التي حافظت على الجزء الأكبر من الشرق الأوسط. وبعد القرن السادس عشر أسس الإسلام الشيعي في إيران الوظيفة ذاتها. أما المسيحيون وبقية الأقليات، فكانت لها مكانة ملموسة في المجتمع، مع أنها تابعة، ولم تكن هناك أية مشاكل. وعلى أي حال، فمع انهيار الإمبراطورية العثمانية، وجد الدين نفسه في حلف مع الفكرة الوطنية (القومية) أحياناً، وفي أحيان أخرى ضدها. وبرهن على انه القوة الأكثر تمزيقية disruptive والعامل الذي تسبب بدرجة عالية في ابطاء حركة انشاء الحكومات المستقرة. ان الدور الذي لعبته الأقليات الدينية في مختلف بلدان الشرق الأوسط قد تم شرحه بشكل كاف في مقالة سابقة ولا حاجة لمناقشتها ثانية هنا.(31) ولا يمكن لأِي باحث موضوعي إنكار أن وجود مشكلة الأقليات هذه وبخاصة ما وفرتها من ذرائع pretex لتبرير التدخل الأجنبي، قادت بدرجة عالية إلى تعقيد مهمة الحكومات في المنطقة. التعليم وهذه القضية، أيضاً، لا تحتاج إلى كثير من التوضيح لأِن الوقائع الرئيسة معروفة. ففي الغرب أخذت الديمقراطية في تثبيت وجودها لأِسباب رئيسة جمعت بين الثقافة العالية للطبقة الحاكمة من جهة وبين الناخبين المتعلمين. وفي القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر، فإن الارستقراطية البريطانية، سلالة فرجينيا، والطبقة الوسطى الفرنسية أثناء فترة التجديد وملكية July قدموا أمثلة لطبقات حاكمة ذات تعليم عال وهيأوا بلدانهم للتحول الديمقراطي. وفي كافة الدول الأوربية فإن التوسع في التعليم حافظ تقريباً على خطواته المتوازية مع توسيع دائرة الناخبين. برز هذا الاتجاه بشكل مثير في انكلترا بإصدار قانون التعليم عام 1870، الذي أعقب وثيقة الإصلاح لعام 1867، حيث اعتق فئة الحرفيين في المدن ومنحهم حق الاقتراع. بينما غاب كلا الشرطين في الشرق الأوسط. فدول هذه المنطقة تبنت المؤسسات البرلمانية- الديمقراطية في غياب كل من طبقة حاكمة مثقفة وجمهور متعلم، رغم أن الوضع يتحسن في هذين المجالين، بفضل الجهود الممتازة التي بُذلتْ بعد الاستقلال. وهنا لنأخذ مثالين فقط، ففي تركيا ارتفع عدد التلاميذ لكافة المدارس من 000ر360 عام 1923 إلى حوالي 000ر800ر1 عام 1950، وفي سوريا بين 1943 و 1950 ارتفع عدد تلاميذ المدارس من000ر174 إلى 000ر301. وبدأت الكفاءات الاختصاصية في العلوم الطبيعية والاجتماعية بالظهور في كل من مصر، تركيا، ولبنان. إلا أن التقدم المحدود الذي تحقق عبّر فقط عن مؤشر لاستمرار البعد عن الهدف. ففي بلد واحد فقط من بلدان الشرق الأوسط (لبنان) يتواجد اكثر من نصف السكان متعلمين، بينما في سوريا حوالي الثلث، تركيا الربع، مصر الخمس، وفي البلدان الأخرى فالنسبة اقل بدرجة ملحوظة. وعلى نحو مماثل، فبينما توفر لبنان التعليم إلى حوالي أربعة أخماس الأطفال في سن الدراسة، فإن تركيا، سوريا، ومصر توفر حوالي النصف، وفي بقية البلدان بحدود الربع أو اقل. مؤشر آخر هو عدد الصحف لكل ألف من السكان، حيث يبلغ في: لبنان 81، الأردن 28، سوريا 21، مصر 18، تركيا 15، العراق 6، إيران 5، باكستان 2، أفغانستان 1. الحصص المقابلة لعدد من الديمقراطيات الغربية: المملكة المتحدة 599، استراليا 455، لوكسمبرج 441، الدول الاسكندنافية الثلاث 415، الولايات المتحدة 357، هولندة 281، ارغواي 187. انه لصحيح أن مستوى الوعي السياسي لعامة الناس في الشرق الأوسط أعلى بكثير مما تظهره المؤشرات أعلاه. ويعود ذلك إلى عادة الاستماع للراديو أو قراءة الصحف كمجموعات. فقد اكتسب أهل الشرق الأوسط شيء من الالمام بالشؤون السياسية الدولية والمحلية، مما أبهر الأجانب على الدوام. لكن مثل هذه الطرق البديلة، رغم أنها عادة إيجابية، لا يمكن أن تعوض عن التعليم، وأن أفكار عامة الناس في ظل استمرار فجوة التعليم من الطبيعي أن تبقى دون تلك القائمة في الدول المتطورة في أوربا وأمريكا بمراحل عديدة.
قاسيون . نقلا عن موقع الاتحاد الدولي لنقابات العمال العرب الاربعاء الموافق 29 شباط 2012