فضائح المخالفات المالية لم تنته فصولاً بعد. آخر نسخة تنطوي على سلوك يثير الكثير من الشبهات؛ فالهيئة العليا للإغاثة تصرّفت بحسابات مجلس الإنماء والإعمار بعلم مصرف لبنان، ورغم أن صلاحية تحريك الحسابات بيد رئيس المجلس نبيل الجسر ورئيس المحاسبة لدى المجلس إيلي رحيم محمد وهبة الاخبار 19-9-2012
فصل جديد من فصول التلاعب بالمال العام تظهره وثائق كشف عنها النائب نبيل نقولا، تؤكّد «اختفاء» نحو 20 مليون دولار من حسابات مجلس الإنماء والإعمار لدى مصرف لبنان. المؤكّد أن هذا المبلغ لم يتبخّر، وأن هناك، بالضرورة، من استولى عليه بعلم مصرف لبنان ورئاسة الحكومة في عهد الرئيس السابق سعد الحريري وموافقتهما. إعادة الإعمار؟ الوقائع الموثقة تؤكّد أن مبلغ الـ20 مليون دولار هو جزء من هبة سعودية منحتها المملكة للبنان ضمن برنامج «إعادة الإعمار» عقب عدوان تموز 2006. قيمة الهبة الإجمالية بلغت 500 مليون دولار خصّص منها 375 مليوناً للإيواء والإسكان، و125 مليوناً لمشاريع في المناطق. في ذلك الوقت، كانت مشكلة مكبّ النفايات في صيدا تتفاقم وسط نقاش حادّ بين الأطراف السياسية في المدينة بشأن طبيعة الحل وسبل تمويله، ودخلت في بازار التنافس الانتخابي بين تيار الحريري والتنظيم الشعبي الناصري. يومها، ضغط فؤاد السنيورة الذي كان رئيساً للحكومة، فوافقت السعودية على تخصيص 20 مليون دولار من الهبة لإنشاء كاسر للموج في محيط المكبّ. وروى السنيورة، في إحدى المناسبات في صيدا بحضور النائبة بهية الحريري، أن اهتمامه «انصبّ مع آخرين لإيجاد حلّ لهذه المشكلة يوم كنت في رئاسة الحكومة وسعيت لإيجاد حلّ لها عندما مثّل التمويل عقبة. وقد أثمر هذا السعي لدى صاحب المكرمات خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز الذي أراد أن يخصّ مدينة صيدا بهبة كريمة لمعالجة هذه المشكلة البيئية الخطيرة على حاضر ومستقبل المدينة وجوارها». لم يكتفِ السنيورة بهذا المقدار من التسويق لمبدأ «المكرمات»، بل ذهب أبعد من ذلك، مشيراً إلى أنه لا يمكن الحديث عن الهبة السعودية من دون أن «نأتي على ذكر الهبات النقدية التي قدمتها المملكة للبنان في السنوات الأخيرة والتي بلغ مجموعها خلال السنوات القليلة الماضية ومنذ عام 2006 نحو 734 مليون دولار أميركي». قرار الحكومة رسمياً، بدأ العمل على كاسر الموج، موضوع الهبة، في نيسان 2009 عندما أصدر مجلس الوزراء قراراً كلف بموجبه مجلس الإنماء والإعمار إعداد الدراسات اللازمة ومشاريع المراسيم المطلوبة وتنفيذ الأشغال البحرية وإشغال الردم في منطقة جبل النفايات في صيدا. عند هذه النقطة، ذهبت حكومة سعد الحريري في عام 2010 باتجاه تحويل مبلغ الهبة إلى مجلس الإنماء والإعمار الذي طلب من مجلس الوزراء «الموافقة على التمويل الجزئي لمشروع الأشغال البحرية لحماية منطقة جبل النفايات في صيدا مرحلياً من الاعتمادات المتوافرة لديه في الموازنة العامة عن حصّة الدولة في خطّة النهوض». وخصّص القرار مبلغ 20 مليون دولار لأشغال إنشاء كاسر الموج من الهبة السعودية، فيما يموّل المبلغ الباقي من الدولة اللبنانية. وبناءً على قرار مجلس الوزراء، طلب مجلس الإنماء والإعمار في كتاب موجّه إلى الأمين العام للهيئة العليا للإغاثة في 2 أيلول 2010 تحويل مبلغ 20 مليون دولار، بعدما لزّم المجلس «المتعهد خوري للمقاولات بقيمة 28.9 مليون دولار تنفيذ الأشغال البحرية لحماية منطقة جبل النفايات في صيدا». استجاب الأمين العام للهيئة العليا، يومها، يحيى رعد لطلب مجلس الإنماء والإعمار، وردّ بكتاب مؤرّخ في 15 أيلول، بأنه «في 16/6/2009 قضى رئيس مجلس الوزراء ــ رئيس الهيئة العليا للإغاثة، بفتح حساب لدى مصرف لبنان باسم السعودية ــ أشغال مكبّ صيدا بمبلغ 20 مليون دولار يتم تحريكه من قبل رئيس المجلس نبيل الجسر ومدير المحاسبة إيلي رحيم»، وهذا يعني أن المبلغ موجود لدى حسابات المجلس منذ ما قبل نحو سنة ونصف سنة على قرار مجلس الوزراء تنفيذ أشغال مكبّ صيدا. الهيئة تصرّفت بالمبلغ لم يطل الأمر قبل أن يكتشف الجسر أن المبلغ ينقص 18 مليون دولار. فقد حاول أن يسدّد للمتعهد المبالغ المستحقة لمصلحته على الهيئة، إلا أنه لم يتمكن بسبب عدم توافر رصيد يكفي سداد مبلغ 928 ألف دولار. ففي كتاب مؤرّخ بتاريخ 31 آب 2012، خاطب الجسر رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي، مؤكداً له أن الهيئة العليا للإغاثة تصرّفت بمبلغ 18 مليون دولار من هذا الحساب. ويشير الجسر في كتابه إلى أن آخر طلب سحب مبالغ من الحساب المذكور بتاريخ 13 آب 2012 لم ينفّذه مصرف لبنان، نظراً إلى عدم وجود رصيد كافٍ في الحساب لتغطية قيمته. ويضيف: «تبيّن بعد استيضاح مصرف لبنان أنه في 10 كانون الثاني 2011، وبطلب من الهيئة العليا للإغاثة، حوّل مبلغ 18 مليون دولار من هذا الحساب (حساب الهبة لدى مصرف لبنان) لشراء سندات خزينة (يوروبوندز) استحقاق 12 نيسان 2014، وبالتالي أصبح مجلس الإنماء والإعمار عاجزاً عن تسديد مستحقات متعهد المشروع بسبب عدم توافر الرصيد الكافي في الحساب». وطلب الجسر «تسوية هذا الوضع تفادياً لأي ملابسات قد تنتج من عدم تسديد مستحقات المتعهد للمشروع». هنا يسأل نقولا: «بأمر من تحرّكت هذه الحسابات التي يفترض ألا يحركها سوى رئيس مجلس الإنماء ورئيس المحاسبة لدى المجلس؟ ولماذا اكتُتب فيها بسندات خزينة بالعملة الأجنبية، وهل يحقّ للهيئة ذلك؟ وهل هكذا كانت تدار المالية العامة للدولة اللبنانية؟ وما الهدف من أن يكون الأمين العام لمجلس الوزراء بين الذين يحقّ لهم تحريك حسابات الهيئة العليا للإغاثة، فضلاً عن مستشاري رئيس مجلس الوزراء غسان طاهر وهشام الشعار، ورئيسة مصلحة ديوان رئاسة مجلس الوزراء ميرفت عيتاني؟ ________________________________________ 52 قانون المحاسبة العمومية تنص هذه المادّة على أن الأموال التي تُقدّم للدولة تُقبَل بمرسوم في مجلس الوزراء وتُقيّد في قسم الواردات من الموازنة. وإذا كانت لهذه الأموال وجهة إنفاق معيّنة، تُفتح لها بالطريقة نفسها اعتمادات بقيمتها في قسم النفقات ________________________________________ مخالفات بالجملة تشير خلاصة القرارات التي أصدرها ديوان المحاسبة في ما خصّ الهبات الخارجية إلى أن أكثر من ملياري دولار هي هبات مجهولة المصير. فليس معلوماً أين صُرفت وكيف ومتى، وهي لا تخضع لأي رقابة مسبقة أو لاحقة؛ هي لم تدخل إلى الموازنة كإيرادات ولم تخرج من الموازنة عبر اعتمادات للإنفاق. هذا السلوك يثير الشكوك والشبهات، لكونه يعني أنه لم يجر تحديد الجهة المستفيدة من الهبة، ولا كيفية توزيعها، ولا مراقبة إمكان التلاعب بوجهة الهبات ومصيرها. اقتصاد العدد ١٨١٢ الاربعاء ١٩ أيلول