مقالات صحفية مختارة > «مستشفى بيروت»: نموذج الفشل الرسمي في إدارة مؤسسة حديثة
زينب ياغي السفير : 19-9-2012
فشلت السلطة السياسية في إدارة أول مؤسسة عامة حديثة، هو «مستشفى بيروت الحكومي». وبناء عليه تحول العمل فيه، تبعاً للمقولة التالية: مستشفى لكل الناس، لكن من دون دعم كما يجب. بعدما كان مخططاً له أن يكون الصرح الصحي الأول في الشرق الأوسط، بالكاد يلبي حالياً الخدمات الاستشفائية بالمتوفر، مع العلم أنه بالقليل من الإرادة والنباهة يمكن إعادته مستشفى أول. أما المرضى فهم يتعاملون معه بدورهم، بوصفه مال الدولة السائب، فتحتاج جدران غرف المرضى إلى طلاء كل عام، لأنها سرعان ما تتسخ من الزوار الذين يضعون أيديهم وأرجلهم كيفما اتفق على الجدران. وقد وصل الأمر ببعضهم إلى سرقة الشطافات من الحمامات، والهواتف من المصاعد. وتحصل تدخلات سياسية شبه يومية من أجل إدخال المرضى، أو إعفاء بعضهم من نسبة الخمسة في المئة التي يدفعونها بدل استشفاء. وطبعاً، سيؤدي الدعم السياسي إلى تطاول أهالي المرضى.. وصولاً إلى إشهار السلاح في وجه الممرضين والممرضات، كما حصل منذ فترة وجيزة. مع ذلك، تسعى الإدارة للحفاظ على المستوى الاستشفائي قدر الإمكان. ويقول رئيس مجلس الإدارة الدكتور وسيم الوزان إن المستشفى افتتح بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، أي في ظل انقسام سياسي لا تزال تداعياته مستمرة حتى اليوم. وقد صنف بأنه مستشفى حكومي جامعي، فاستدعت صفة الحكومي، دخول نوع معين من المرضى، هم في غالبيتهم من الفقراء الذين يموتون على أبواب مستشفيات أخرى، لأنهم غير قادرين على الاستشفاء فيها. وقد وضعت ضمن خطتها استيعاب جميع أنواع المرضى، ومن جميع المناطق، بغض النظر عن أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية. واستدعت صفة الجامعي مستوى عالياً من الطبابة والاستشفاء.
كلفة العلاج أعلى من التسعيرة
عندما بدأ المرضى يدخلون المستشفى، تبين أن الكلفة الفعلية للعلاج أعلى من تسعيرة الهيئات الضامنة ووزارة الصحة. وتبعاً لذلك، وبدلاً من أن يغطي مصاريفه، أخذ يخسر. وفوق ذلك، أقرت وزارة الصحة حسوما على الفواتير التي تدفعها، وقد بلغت الحسوم منذ بدء التشغيل حتى اليوم، ثلاثة وعشرين مليار ليرة، بينما تدفع الوزارة سنوياً خمسة وثلاثين مليار ليرة، من أصل خمسة وستين مليار ليرة مترتبة عليها. ويوضح الوزان أن نسبة سبعين في المئة من المرضى يعالجون على نفقة وزارة الصحة، ويدفع المريض نسبة خمسة في المئة فقط من فاتورة الاستشفاء، بدلاً من خمس عشرة في المئة، فتبلغ بذلك قيمة الحسوم على الفواتير عشرين مليار ليرة، وبعض المرضى لا يدفعون حتى الخمسة في المئة، بينما يترتب على المرضى دفع بدل المعدات الطبية المرتفعة الثمن، في حال احتاجوا إليها، مثل المفاصل الاصطناعية، والأنواع الحديثة من معدات قسطرة القلب، «الراسورات»، ومعدات وقف النزف الدماغي.
تشغيل نصف الأسرّة
يضم المستشفى غرفاً تتسع لخمسمئة وأربعين سريراً، وعندما فتحت أبوابه كان الاتفاق يقضي بمساهمة الحكومة في كلفة بدء تشغيل أربعمئة سرير، بمبلغ أربعين مليار ليرة، لكنها لم تدفع منها شيئاً. وإذا ما تم جمع 40 ملياراً و23 ملياراً و20 ملياراً، تكون الخسارة قد بلغت ثلاثة وسبعين مليار ليرة من الموازنة المفترضة. مع ذلك، استطاعت الإدارة تشغيل الأربعمئة سرير، من الموازنة المتوافرة، ومن سلف الخزينة، على أن يتم استردادها من الفواتير فيما بعد، ووصل المستشفى إلى «عصره الذهبي» في العام 2010 ، ثم بدأ التراجع مع الحسوم، فانخفضت الأربعمئة إلى مئتين وسبعين سريراً، وتراجعت الخدمات الفندقية لمصلحة الاستشفاء. ويقول الوزان إنه عندما يقع العجز المالي يكون الخيار المطروح، إما الإقفال وإما البدء بتحديد الأولويات، فتم اختيار الاستشفاء على حساب نوعية الخدمات الباقية، مثل الهندسة والصيانة، تماماً كما يحصل لدى رب العائلة عندما يقع في العجز، فيعطي الأولوية لتأمين الخبز على حساب الأثاث مثلا. وبقيت المصاريف الثابتة التي لا يمكن التراجع عنها مثل رواتب الموظفين، وتبلغ ألفاً وسبعمئة مليار ليرة شهرياً، يتقاضونها من الفواتير المستحقة على وزارة الصحة بشكل رئيس. وقررت الإدارة بعد تكرار إضراب الموظفين، أن تكون الرواتب بدءاً من الشهر المقبل من فواتير الاستشفاء التي تدفعها الهيئات الضامنة الأخرى، والأموال النقدية التي تتقاضاها من المرضى العرب، مع التوضيح أن الأجور تتبع للقطاع الخاص، وليس للقطاع العام، بينما لا يزال الموظفون يتقاضون الرواتب القديمة قبل الزيادة. ويعلن الوزان أن وزارة الصحة رفعت قيمة الفاتورة الصحية بدءا من آب الماضي، وسيتبعها رفع تعرفة الهيئات الضامنة، على أن يذهب ارتفاع قيمة الفواتير إلى الزيادة على الرواتب.
التفتيش المركزي
وجهت إلى مجلس الإدارة اتهامات كثيرة بالهدر والفساد، وشراء معدات طبية، بأسعار بخسة. وهنا، يوضح الوزان أن شراء المعدات يتم عبر المناقصات الرسمية، وقد طلب من «التفتيش المركزي التحقيق في الاتهامات الموجهة إلى المجلس»، وسيصدر التفتيش تقريره في الأيام المقبلة، مع الإشارة إلى أن كلفة اليوم الاستشفائي في «مستشفى بيروت الحكومي» تبلغ أربعمئة دولار، بينما تبلغ في المستشفيات الجامعية الأخرى ألفاً ومئتي دولار. وقد تقدم الوزان بمجموعة اقتراحات لحل الأزمة، هي: تخصيص موازنة سنوية فورية لتغطية الفارق بين الكلفة الفعلية والفواتير التي تدفعها وزارة الصحة، وتعيين مجلس إدارة جديد لأن مدة مجلس الإدارة الحالي انتهت منذ خمس سنوات، وتكليف خبراء ماليين وصحيين لإجراء دراسة شاملة عن الجدوى الصحية والاقتصادية والاجتماعية للمستشفى. واقترح إعادة نسبة العشرة في المئة على الفاتورة الصحية، على أن تُستثنى منها الفئات الفقيرة. وخلال سبع سنوات، دخل المستشفى مئة وثلاثون ألف مريض، وقدم خدمات صحية بأسعار مخفضة لنحو مئة وعشرين ألف مريض. ولا يزال يستقبل طلاب الطب في الجامعات اللبنانية والعربية والأميركية. ويؤكد الوزان أنه لا يتم توظيف أطباء إذا لم يكونوا مدربين في دول أوروبية والولايات المتحدة، باستثناء عدد قليل دخل عبر الوساطات. وتبين أن الفندق الذي بني من أجل السياحة الصحية يستقبل حالياً مرضى عراقيين، ومن قوات «اليونيفيل». ويدخل المستشفى مرضى سوريون بينهم عدد كبير من الحوامل اللواتي يلدن فيه، وفق أحد المسؤولين الإداريين، ومنهم من يتحمل نفقة الاستشفاء ومنهم من تدفع له الجمعيات الأهلية. وتوضيحا للانتقادات التي تعرض لها بإدخال مرضى عرب على حساب المرضى اللبنانيين، يقول الوزان إنهم لا يريدون مداخيل خاصة، ولا يريدون دفع ما يترتب عليهم. بالرغم من الفشل في الاهتمام بالمستشفى، لا يزال يصنف ضمن الأوائل في الاستشفاء. وتجري فيه كل العمليات الجراحية، باستثناء طب قلب الأطفال، ويوجد فيه قسما غسيل الكلى والعلاج الكيميائي. ومن المأساة أن أنظمة التبريد التي وضعت للقسمين غير كافية، فتم شراء أجهزة تبريد إضافية وضعت في زوايا القاعات، لأن مريض العلاج الكيميائي أو غسيل الكلى غير قادر على تحمل الحرارة. وللتذكير، فإن كلفة بناء المستشفى وتجهيزه فاقت المئة وأربعين مليون دولار، عسى ألا تذهب هدراً.