ليس صبر اللبنانيين وحده الذي يتقلّص من جراء تدهور المؤشرات المختلفة في بلادهم، فحجم الاقتصاد أيضاً يصغر. بعد فصلين من التراجع إلى الوراء دخل رسمياً الركود. وضع تلعب فيه القروض المصرفية دوراً حاسماً، سلباً أو إيجاباً حسن شقراني : «دخل الاقتصاد اللبناني في ركود خلال عام 2012، والشركات التي تعتمد على السياحة (فنادق، مطاعم، ملاه) هي الأكثر تضرراً، والعديد منها لن يصمد كثيراً». قد تكون نبرة نقابة أصحاب المؤسسات السياحية في لبنان بكائيّة أكثر من الواقع. ففي المبدأ تم التعويض نسبياً عن تراجع تدفق السيّاح إلى لبنان بإنفاق القادمين من سوريا إضافة إلى نسبة مهمّة من المغتربين الذين زاروا مسقط رأسهم خلال هذا العام. ولكن هذا لا يعني أنّ الأداء الاقتصادي الإجمالي هو فوق المعدّل، بل على العكس تماماً، يبدو أن البلاد قد دخلت فعلاً الركود، إذ وفقاً لتوقّعات معهد التمويل الدولي، تقلّص الاقتصاد بنسبة 0.3% خلال الربع الثاني من العام الجاري، ومعدّل التقلّص سيبلغ 0.5% خلال الفصل الثالث. هذه الأخبار سيئة فعلاً، إذ يُصنّف أي اقتصاد أنه في ركود في حال شهد فصلين متتالين من التقلّص (النمو السلبي)، وفقاً لقاعدة الاقتصادي/الإحصائي الشهير يوليوس شيسكين. ولكن يُمكن قياسه أيضاً عبر معدّل البطالة: ارتفاع المعدل بنسبة 1.5% على أساس سنوي يعني أن البلاد تعيش الركود. وفي ظلّ غياب الإحصاءات الدقيقة الخاصة بمستويات التشغيل ومعدّلات البطالة، ومع بقاء الحسابات الوطنية ترفاً غير مهم بالنسبة للطبقة الحاكمة، فإنّ الاعتماد على البيانات الدولية يصبح الأكثر إقناعاً. وفي حالة أرقام معهد التمويل الدولي، لا داعي للتفكير مرتين. «من وجهة نظري لقد دخل الاقتصاد في مرحلة أخطر مقارنة بالتباطؤ الذي ساد منذ العام الماضي»، يجزم كبير الاقتصاديين في بنك «بيبلوس»، نسيب غبريل. «يُمكن القول إنّ البلاد رسمياً في ركود». ويذهب هذا الخبير إلى استغراب توقعات المعهد أن النمو في الربع الأخير (فترة تشرين الأوّل _ كانون الأوّل) سيبلغ 3%، وبالتالي كيف أنّ النموّ الإجمالي لعام 2012 سيكون 1.2%. من بين الدلالات المهمّة على أداء الاقتصاد قدرة الشركات والأفراد على تسديد الديون؛ فكلما ساد احترام السندات الشهرية كانت الأوضاع مستقرّة على صعيدي الاستهلاك والأعمال. ويتضح حجم المشكل بمجرّد إثارته خلال اللقاء الشهري الأخير لجمعية المصارف مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. فقد تطرّق الأخير خلال اللقاء إلى القروض المدعومة التي سحبتها المؤسسات والشركات المختلفة لتنمية أعمالها _ وبينها القروض الممنوحة في إطار برنامج «كفالات». وطلب سلامة من المصارف أن تأخذ في الاعتبار الأوضاع القائمة، وأن «تتريّث في تصنيف العملاء الذين يصعب عليهم الإيفاء بالفوائد»، كما طلب منها إبلاغ مصرف لبنان، وإيجاد حلول مع لجنة الرقابة على المصارف لمعالجة حالات عدم القدرة على السداد أو التعثّر. غير أنّ الأمين العام لجمعية المصارف مكرم صادر يُفضّل التفاؤل النسبي. فبرأيه هناك مشاكل تعاني منها العجلة الاقتصادية حالياً، غير أنّها لا تنعكس تعثّراً حاداً في سداد القروض. على صعيد الاستهلاك _ وهو النشاط الذي يُمثّل حوالى 75% من الاقتصاد ككلّ _ «لم يُرصد في الآونة الأخيرة تدهور في ملاءة الزبائن وقدرتهم على سداد ديونهم؛ فمداخيلهم لا تزال على ما هي عليه، كما أن الأوضاع في بلدان الاغتراب الرئيسية التي تولّد التحولات مستقرّة»، يشرح مكرم صادر. أما في قطاع الأعمال/الشركات فإنّ «المؤسسات تشكو من تراجع عدد السياح بنسبة تفوق 10%، ولكن الأمر ليس كارثياً، وخصوصاً بوجود السوريين وتدفق المغتربين». من هذا المنطلق يؤكّد الأمين العام لجمعية المصارف أنّ معدل القروض المتعثّرة (Non Performing Loans) لا يزال على حاله. وبحسب البيانات الأخيرة لصندوق النقد الدولي فإنّ المعدّل هو 3.8%. يُشدّد هذا المصرفي على أنّ المعدّل المسجّل في لبنان هو أفضل بكثير من تلك المسجّلة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؛ وفي الظروف الطبيعية يكون المعدّل اللبناني يُساوي 50% من المعدّل العام الإقليمي. وبالفعل يؤكّد صندوق النقد الدولي على هذه المسألة ويقول في آخر تقرير له عن الاقتصاد اللبناني، في إطار برنامج المادّة الرابعة، إنّ معدّل القروض المتعثّرة منخفض نسبياً في ظلّ استقرار الأرباح. ولكن في المقابل منحت المصارف قروضاً بالدولار لزبائن غير محصّنين، ما يجعل تلك القروض حاملة لمخاطر ملموسة، كما يشير الصندوق. توضح تقديرات أحد المصرفيين أنّ معدل القروض المتعثّرة تجاوز عتبة 4%. وبالاعتماد على بيانات جمعيّة المصارف نفسها، فإنّ حجم القروض الإجمالية للقطاع الخاص بلغ 41.5 مليار دولار بنهاية تمّوز الماضي. وهذا يعني أنّ حجم القروض المتعثّرة يبلغ 1.6 مليار دولار. ما يؤزّم وضع عجلة الاقتصاد ويُبعدها عن النمو والازدهار هو الأوضاع المحيطة. فمعهد التمويل الدولي نفسه يقول إنّ تأثيرات الأزمة السورية هي أحد الأسباب الرئيسية للأداء الاقتصادي الضعيف. ولكن هناك مسألة أخرى؛ فالاقتصاد السوري كان ملعباً مهماً للمصارف اللبنانيّة، ولكن في ظلّ الاضطرابات تراجع نشاط تلك المصارف هناك إلى 20% فقط من المستوى الذي كان سائداً قبل الأزمة، وفقاً لتأكيدات مكرم صادر. فبطبيعة الحال توقّفت تلك المصارف عن تحرير قروض جديدة في هذا البلد العربي، وهي تسعى إلى التحوّط قدر الإمكان من تعثّر القروض القائمة. والمشكلة في هذا الأمر هو أن المصارف اعتمدت على نشاطها الإقليمي لتحقيق القفزات النوعية، وليس مفهوماً حتّى الآن كيف سيكون ردّ فعلها في سوقها الأساسية _ لبنان _ في ظلّ البيئة القائمة، وما إذا كانت ستزيد من وطأة الركود أو تكبحه. جُلّ ما يُطمئن به مكرم صادر هو أنّ «المصارف محنّكة في آليات التعامل مع الأزمات بعدما اعتادتها». فهل تكون هذه المرّة مختلفة؟ ________________________________________ 10.1 في المئة معدّل القروض المتعثّرة المسجّل عام 2007، وقد انخفض تدريجاً مع الفورة التي شهدتها البلاد حتّى 2010، وبلغ 3.8% في بداية 2012 ________________________________________ 3.7 في المئة معدّل النمو الذي يتوقعه معهد التمويل الدولي في عام 2013، على أن يرتفع إلى 4.5% في العام اللاحق مقارنة بـ1.3% في العام الحالي ________________________________________ 1.99 مليون عدد الوافدين عبر مطار بيروت حتى آب الماضي، ما يعكس نمواً بنسبة 6.7% في ظلّ تقلّص عدد السياح الوافدين بنسبة 12.5% ________________________________________ المؤونات أوّلاً تستمرّ المصارف اللبنانية بمراكمة المؤونات لاحتواء خسائر محتملة على بعض القروض والاستثمارات. وهي ستستمر بذلك في حال استمر الركود، على أن يجري تحويلها إلى أرباح في ما بعد في حال تبين أن الضغوط تقلّصت، يؤكّد الأمين العام لجمعية المصارف، مكرم صادر. وخلال الأشهر السبعة الأولى نمت ودائع وقروض المصارف بنسبة 3.5% و5.4% على التوالي، أقلّ من العام الماضي على نحو ملحوظ. اقتصاد العدد ١٨١٣ الخميس ٢٠ أيلول