تقوم «عقيدة الصدمة»، أو «مذهب رأسمالية الكوارث»، كما تسمّيه الباحثة المعروفة نعومي كلاين، على استغلال «كارثة» ما أو «تهديد خطير» من أجل تمرير قرارات لا تخدم المصلحة العامّة، وإنما تزيد منافع فئة معينة على حساب الفئات الأخرى كلّها... يطبّق «اللوبي» الحاكم في لبنان هذه العقيدة بنجاح باهر ومتواصل، مستغلاً «صناعة القلق» المزدهرة جدّاً هذه الأيام محمد زبيب الاخبار 29-10-2012 ارتاح «اللوبي» الحاكم قليلاً! لم يعد أركانه مضطرين لإطلاق المزيد من المواقف «التهويلية» والقيام بجولات «التهديد» و«الوعيد» لمنع إحالة مشروع قانون تعديل سلسلة الرتب والرواتب وزيادة الأجور في إدارات الدولة وأسلاكها الى مجلس النواب. فالتفجير «الإرهابي» في الأشرفية أدّى أغراضاً أخرى كثيرة غير اغتيال رئيس فرع المعلومات وسام الحسن. لقد وُضع البلد في حال قلق متعاظم من انفجار النزاعات الأهلية المسلّحة أو ما يُطلق عليه اسم «الفتنة السنية _ الشيعية»، وبالتالي تم إخضاع المجتمع كلّه لصدمة جماعية إضافية تكفي لطي الكثير من المواجهات التي لاحت بوادرها في الآونة الأخيرة. سارعت قوى 14 آذار الى الضغط لإسقاط الحكومة وعطّلت عمل مجلس النواب (على تفاهة عمله)، كما سارعت قوى 8 آذار الى اتخاذ خطوات تتناقض مع مواقفها المعلنة لتحصين الحكومة ومنع إسقاطها. انعقد مجلس الوزراء في جلسة وحيدة منذ التفجير المذكور، وقرر تقديم تنازلات جوهرية تقضي بتسليم «داتا» الاتصالات الكاملة الى الأجهزة الأمنية والمخابراتية، كما قرر تكليف وزير الداخلية بتقديم الاقتراحات اللازمة لتحويل فرع المعلومات الى شعبة، ووافق على تطويع المئات في عديد قوى الأمن الداخلي فوراً بما يشبه الرشوة العلنية! ما عدا ذلك صار في خبر كان، لم تعد زيادة الأجور مطروحة على جدول الأعمال الراهن، وكذلك التعديلات الضريبية التي أثارت حفيظة «اللوبي»، كما تراجع الكلام عن الانتخابات النيابية لصالح التركيز على «حوار» يهدف الى إعادة توزيع الحصص في السلطة عموماً. في ظل هذه «الهستيريا» المفتعلة، تم إفراغ الساحة لخطابين لا يحملان أي تصوّر جدّي للخروج من الأزمة القائمة في النظام السياسي نفسه. ساد صمت «النُّخب» مجدداً، وعلّقت هيئة التنسيق النقابية تحرّكاتها المطلبية لتؤكّد تمسّكها «بالسلم الأهلي والوحدة الوطنية ومعالجة المشاكل السياسية بعيداً عن العنف والتوترات الطائفية والمذهبية»، بحسب ما جاء في بيانها، وهي تتجه الى تأجيل الإضراب المقرر يوم الأربعاء المقبل بعدما سارع «اللوبي» نفسه الى إشاعة أن هذا الإضراب سيساهم في إسقاط حكومة نجيب ميقاتي، في حين سارع ميقاتي الى دعوة الهيئة الى حوار يبدأ يوم الخميس، أي أنه مشروط بإلغاء التحرّك الضاغط يوم الأربعاء. وكذلك طوى «ناشطو» و«ناشطات» ما يسمّى «المجتمع المدني» لافتات المطالب المزمنة، فحضرت في «المسيرة البيضاء» شعارات «خلصونا بقى» و«لا 8 ولا 14 آذار» و«لا حزبية ولا طائفية»... بدلاً من الانحياز، الآن وأكثر من أي وقت مضى، للمطالب الرامية الى وضع قانون للانتخابات يعتمد النسبية والدائرة الواحدة خارج القيد الطائفي وتخفيض سن الاقتراع الى 18 سنة ووضع قانون مدني موحد للأحوال الشخصية وتحرير النقابات العمّالية من يد السلطة واسترداد الأملاك العامّة والأصول المنهوبة وتطبيق نظام التغطية الصحية الشاملة لجميع اللبنانيين المقيمين في لبنان وإقامة نظام عام فعّال وحديث للنقل المشترك وضمان وصول المواطنين الى الخدمات العامّة بنوعية جيدّة وكلفة مقبولة ووضع ضرائب تغريمية على المضاربات المالية والعقارية التي تدمّر المجتمع والاقتصاد وتدفع المزيد من الشابات والشباب الى الهجرة والكفر بالدولة وفقدان الثقة بها وبمشروعيتها وازدراء العمل السياسي الذي لا بديل منه لإحداث التغيير المأمول. لقد نجحت صناعة القلق مجدداً في إعادة ترتيب الأولويات لمصلحة «اللوبي» الحاكم، وأخرجت من يجب إخراجهم من دائرة الفعل أو محاولة الفعل، ولم يعد ممكناً تجاوز القضايا المطروحة فحسب، بل استعمال «المبرد» كذلك لإعادة تمليس بعض النتوءات التي ظهرت أخيراً... هناك أمثلة كثيرة يمكن سردها عمّا تم تدبيره منذ التفجير الإرهابي في الأشرفية حتى اليوم، فعندما كان الجميع يشعر بالذعر من تداعيات اغتيال وسام الحسن ومحاولة اقتحام مقر رئيس مجلس الوزراء وانفلات السلاح في الشارع، كان «اللوبي» ينشغل بأمور أخرى كثيرة؛ فعلى مدخل فرع شركة «سبينيس» في الضبية، كمنت مجموعة من «المرتزقة» التابعة للنائب السابق جبران طوق ونجله وليم ومدير الشركة الإنكليزي مايكل رايت لأمين سر الهيئة التأسيسية لنقابة العاملين في «سبينيس _ لبنان» مخيبر حبشي، وانهالوا عليه بالضرب المبرح لأنه لم يرضخ لتهديدات إدارة الشركة وأصرّ على مواصلة عمله النقابي واستكمال التحضيرات لإجراء أول انتخابات لمجلس النقابة «المستقلة». سبق ذلك تهديدات شفهية باتت موثّقة لدى النيابة العامّة وفي محاضر التحقيق، وإجراءات إدارية انتقامية قضت بنقل حبشي ومن بقي من زملاء له في النقابة الى أماكن أخرى غير الأماكن والوظائف التي كانوا يؤدونها... طبعاً، معظم الناس تعاملوا مع هذه الواقعة كما لو أنها حدث أمني عابر لا توازي أهميته الأحداث التي تشهدها البلاد والتي يذهب ضحيتها مواطنات ومواطنون أبرياء كجورجيت سركيسيان في الأشرفية والطفلة جنى كمال الدين في جبل محسن وعلي طافش في كترمايا (وهذا صحيح، إذ ليس هناك أثمن من الحياة). إلا أن «صناعة القلق» هذا ما تنتجه أصلاً، تضع الجميع في حال صدمة لتطويعهم وتدجينهم وتجعلهم يتغاضون عن حقوقهم وحرياتهم، وتفقدهم القدرة على الإمساك بتسلسل الأحداث، وتحيل ردود أفعالهم الى الثلاجة... فما حصل في ضبية في الأسبوع الماضي ليس إلا حلقة من سلسلة طويلة من الأعمال الرامية الى وأد كل فرصة لإحياء عمل نقابي حقيقي يعيد بعض التوازن الى علاقات ما يسمّى شركاء العمل أو الإنتاج، سبقها طرد رئيس النقابة ميلاد بركات من عمله، وسبق ذلك طرد الناشط النقابي في الشركة نفسها سمير طوق وإكراه أكثر من 700 عاملة وعامل في الشركة على توقيع عريضة ترفض الترخيص لنقابتهم وتمدح إدارة الشركة التي ترفض منحهم حقوقهم البديهية، وفي مقدمها تصحيح أجورهم وفقاً للاتفاق بين هيئات أصحاب العمل وقيادة الاتحاد العمالي العام وبناءً على المرسوم الصادر عن مجلس الوزراء في شباط الماضي لوضع هذا الاتفاق موضع التنفيذ، كذلك التصريح عن المكتومين لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، فقد تجاهلت الشركة محاضر التفتيش التي أنجزها مراقبو الصندوق والتي تفرض عليها التصريح عن كل العاملات والعاملين، مهما كانت صفتهم، ووقف كل أشكال العمل بالسخرة التي تُفرض على 300 عامل حمّال لا يتقاضون أي أجر ثابت سوى إكراميات الزبائن ويضطرون لتسديد جزء من هذه الإكراميات الى الشركة التي تستغل قوّة عملهم لتعظيم أرباحها... حصل ذلك ولم يتحرّك أحد من المعنيين بفرض تطبيق القانون، بل على العكس، لا تزال إدارة الشركة تحظى بالحماية من أي ملاحقة، مع أن سلوكها مع شركات أخرى وفي مجالات كثيرة، تجاوز بأهدافه منطق نزاعات العمل، وبات يندرج في إطار قمع الحريات العامّة والشخصية وينتهك أحكاماً دستورية واضحة تضمن لجميع الناس ممارسة العمل النقابي وأشكال التعبير الأخرى. مثال شركة «سبينيس» يلتقي مع مثال آخر أكثر خطورة، فبحجّة الأولوية الأمنية تم تجاوز الحساسية التي ظهرت تجاه تعريض الحياة الشخصية للبنانيين للانكشاف والابتزاز، إذ بموجب قرار مجلس الوزراء الأخير، القاضي بتسليم كل «داتا» الاتصالات للأجهزة المخابراتية من الآن وصاعداً ومن دون أي ضوابط أو تحفّظ أو سجال، بات جميع المقيمين في لبنان اليوم تحت المراقبة الدائمة، وفق ما جاء في كتاب رفعته وزارة الاتصالات الى مجلس الوزراء، فتسليم «الداتا» الكاملة، كما هو معروف، يبيح مراقبة تحركات واتصالات وعلاقات أي شخص، كما يتيح اختراق الأجهزة، كما حدث مع فيروس Flame، الذي يحوّل الجهاز الى جاسوس ورقيب يلاحق كل فرد أينما ذهب وكيفما تحرك، في كل منزل، وفي كل مكتب، وفي كل صالون، وفي كلّ غرفة نوم... إن هذا التجاهل للحرية الشخصية وانتهاك الخصوصية ليس أمراً عابراً يمكن التعامل معه بهذه الخفّة، فضلاً عن أنه يمعن في انتهاك أحكام الدستور التي تقيّد السلطة بشروط احترام الحريات العامة وفي طليعتها حرية الرأي والمعتقد، ولا سيما المادة 8 التي نصت على أن الحرية الشخصية مصونة وفي حمى القانون، والمادة 13 التي كفلت حرية إبداء الرأي قولاً وكتابة، وحرية الطباعة وحرية الاجتماع وحرية تأليف الجمعيات، والمادة 14 التي أكدت أن للمنزل حرمة ولا يسوّغ لأحد الدخول إليه إلا في الأحوال والطرق المبيّنة في القانون. هذان المثالان لا يختصران كل ما يحصل الآن، إلا أنهما يوضحان منطق «عقيدة الصدمة» وطريقة عمل «اللوبي» الذي يعرف كيف يحوّل الأحداث الى عوامل قوّة له، فاستهداف الحريات العامّة والشخصية لا يتم بالصدفة، بل هو شرط أساسي لتمرير المزيد من القرارات الخطيرة الجاري التحضير لها، وسيكون وقعها السلبي كبيراً جداً على بنية الدولة ومفهوم المصلحة العامّة وحقوق المواطنين، إذ في ذروة «القلق» الجماعي، بدأ البعض يسوّق لتسوية نهائية للتعدّيات على الأملاك العامّة البحرية بحجّة تمويل التعديلات على سلسلة الرتب والرواتب. تسوية تستبدل التغريم بالتمليك، وهو هدف أساسي من أهداف «اللوبي»، إذ كشف تقرير أعدّته وزارة الأشغال العامّة والنقل ورفعته الى مجلس الوزراء أن عدد التعدّيات (تسمّيها الوزارة مخالفات) على الأملاك العامة البحرية يبلغ 1280 تعدّياً، ويشمل مساحات واسعة تقدّر بنحو مليونين و706 آلاف و904 أمتار مربعة من الأراضي المستحدثة بالردم (لا يتضمن هذا التقدير عمليات الردم الكبرى في وسط بيروت والضبية ومطار بيروت الدولي وصيدا) ونحو 412 ألفاً و324 متراً مربعاً من المسطّح المائي... ويضاف الى هذه المساحات نحو مليون و742 ألفاً و65 متراً مربعاً من المساحات المشغولة بموجب تراخيص صادرة عن الجهات المعنية، لكنها تخالف أحكام الدستور والقوانين المرعية الإجراء التي تمنع قيام أي إنشاءات دائمة على الشاطئ تمنع المواطنين من الولوج الحر الى البحر. وعلى الرغم من أن حجّة تمويل السلسلة لا تتواءم مع تمليك أملاك الدولة البحرية للمعتدين عليها كونها يمكن أن تدرّ مبالغ كبيرة لمرّة واحدة، إلا أن «اللوبي» يعمل بجد ونشاط من أجل تسويقها بدلاً من فرض ضريبة على الربح العقاري وزيادة الضريبة على ربح الفوائد وأرباح المصارف والمؤسسات المالية (وهي إجراءات يمكن أن تساهم بتأمين إيرادات تصل الى 2500 مليار ليرة سنوياً إذا كان هدفها تصحيح الخلل في النظام الضريبي وإعادة توزيع الثروة)، كما يعمل بجد أكبر من أجل إقرار قانون جديد لتسوية مخالفات البناء وقانون آخر يرمي الى زيادة عامل الاستثمار (إضافة طابق على كل مبنى) وهما من أخطر الإجراءات التي تسبب ضرراً دائماً للمصلحة العامّة، في مقابل زيادة مردود التوظيفات العقارية، إذ إن عامل الاستثمار (أو عدد الطوابق المسموح) يتصل اتصالاً عضوياً بتوزيع الكثافة السكنية والقدرة الاستيعابية للبنى التحتية، فكلما زادت الكثافة السكانية بما يتجاوز القدرة الاستيعابية للبنى التحتية وأنظمة الخدمات العامّة ازداد معها تدهور نوعية الحياة ومستويات المعيشة. المراسيم الصادرة باشغال الأملاك العامة البحرية ورسومها السنوية
التعديات على الأملاك العامة البحرية ورسومها السنوية
________________________________________ حالة «سبينيس»
يحمّل الناشط النقابي سمير طوق المسؤولية عمّا يحصل مع عاملات وعمّال شركة «سبينيس» لقيادة الاتحاد العمّالي وهيئات أصحاب العمل ووزير العمل مجتمعين. يشير الى مسؤوليتهم المباشرة عن تطبيق «الاتفاق الرضائي التاريخي»، بحسب وصف أركانها، الذي قضى بتصحيح الأجور بنسب هزيلة وإبقاء بدل النقل خارج الأجر وعدم إلغاء الاشتراكات في فرع ضمان المرض والأمومة لصالح إقرار نظام التغطية الصحيّة الشاملة الممول من الضرائب. فرغم أن هذا الاتفاق يصب بالكامل في مصلحة أصحاب العمل، لم يطالب عمال وعاملات «سبينيس» بأكثر من تطبيقه، وهو ما رفضته إدارة الشركة وواجهته بشتى الممارسات التعسفية والانتقامية، لذلك، يرى طوق أن هذه الأطراف التي وقّعت على الاتفاق بصفتها التمثيلية يجب عليها تحمّل مسؤولياتها والتدخّل فوراً لفرض تطبيقه في كل الشركات، ولا سيما في «سبينيس». فوزير العمل ليس مجرد «وسيط» في هذه الحالة، وإنما يجسّد سلطة الدولة بوصفها الضامن لتطبيق اتفاق رعته ومهرته بتوقيعها. وهذا ينطبق على هيئات أصحاب العمل التي قاومت كل طرح يهدف الى إدخال تعديلات على بنية سوق العمل والاقتصاد وتوزيع الأرباح والتزمت بنص الاتفاق بوصفه يجسّد خياراتها، أي أنها ملزمة بإجبار من تدّعي تمثيلهم على الالتزام بهذه الخيارات. وكذلك ينطبق على قيادة الاتحاد العمّالي التي أكثرت استخدام مقولة «خذ وطالب» لتبرير خيانتها لمن تمثّل وقبولها بخيارات أصحاب العمل، فما يحصل في «سبينيس» والكثير من الشركات يوضح أن قيادة الاتحاد العمّالي لم تفعل شيئاً سوى لجم المطالب وعدم السماح للعمال بأخذ أي مطلب حتى لو كان يتوافق مع مصالح أصحاب العمل... أين هؤلاء جميعاً يسأل سمير طوق. اقتصاد العدد ١٨٤٥ الاثنين ٢٩ تشرين الأول