مقالات صحفية مختارة > الحوار الاقتصادي: من يمثل مصالح الضعفاء؟
اطاحت هيئات اصحاب العمل الدعوة الى عقد «طاولة» حوار اقتصادي! السبب هو التزام بعض ممثليهم بقرار مقاطعة اعمال الحكومة القائمة، الذي اتخذه تيار المستقبل وحلفاؤه، أي ان الحجج لطلب «التأجيل»، ومنها عدم الجاهزية، ليست سوى حجج واهية، باعتبار ان المدعوين للجلوس الى الطاولة يمثّلون المصالح نفسها، والحوار بينهم ما كان ليتجاوز الدعاية الاعلامية محمد زبيب الاخبار 5-11-2012 من يحاور من؟ ومن يمثل من؟ واي مصالح يمثّلها؟ هذه الاسئلة لم تكن في بال احد للإجابة عنها عندما أُعلنت نيّة الحكومة الحالية (او رئيسها) الدعوة الى عقد «طاولة» للحوار الاقتصادي. بدا الامر منذ البداية محسوماً (او بديهياً)، فالمعنيون بالدعوة هم (سلفاً): ممثلو هيئات اصحاب العمل وقيادة الاتحاد العمّالي العام والوزراء المعنيون! لكن، هل هناك فارق جوهري بين هؤلاء؟ هل يمثّلون مصالح متناقضة؟ هل يحملون هموماً وهواجس يختلفون عليها؟ طبعا لا، او على الاقل هذا ما تشي به التجربة منذ عقدين من الزمن (او تحديدا منذ عقد الثمانينيات الماضي)، عندما جرى الاستيلاء على الدولة من قبل تحالف امراء الحرب والمال، وجرى تكريس حكم «المقاطعجية» ومصادرة «السياسة» او «الشأن العام» وفي صلبه المجتمع والاقتصاد... منذ ذاك الحين، لم يعد للاحزاب والنقابات وهيئات «المجتمع المدني» الاخرى دور في اي حوار: جرى تدجينها، او تحييدها، او اضعافها، او الغاء ادوارها... وهذا كان شرطا اساسيا من شروط حماية نموذج «الدولة الريعية» التي يعانيها اللبنانيون اليوم، الذي أدى إلى تركّز هائل للثروة في أيدي القلّة «الحاكمة» وهجرة واسعة للشابات والشباب وتراجعاً خطيرا في انتاجية الاقتصاد، وقدرته على تلبية حاجات المقيمين وطموحاتهم. على اي حال، اطاحت هيئات اصحاب العمل هذه الدعوة، ليس بسبب تعارض مصالحها معها، او خوفا من اضطرارها الى تقديم تنازلات تهدد مكاسبها الجمّة، بل بسبب اضطرار بعض ممثليها إلى الالتزام بالدعوة الى مقاطعة الحكومة الحالية وتشديد الضغوط عليها ومحاصرتها من اجل اسقاطها واستبدالها بحكومة اخرى. طبعا، حكومة اخرى تمثّل المصالح الاجتماعية نفسها التي تمثّلها الحكومة الحالية، فالتغيير بهذا المعنى ليس مطروحا اطلاقا، في ظل غياب قوى ضاغطة تمثّل المصالح الاخرى، وهو ليس مدرجا على جدول اعمال اي «حوار» حتى الان، بسبب هذا الغياب، والانقسام السياسي الظاهر بين فريقي الحكومة ومعارضيها لا يتخذ من «الاقتصاد» محورا له، الا في سياق اعلامي مدروس يحاول الايهام بأن الامور كانت على ما يرام، وتدهورت في ظل الحكومة الحالية! فيما الحكومة الحالية لم تترك فرصة من دون استغلالها للتأكيد على موقعها كحارسة للمصالح الاجتماعية، التي يمثّلها خصومها. ولعل معركة تصحيح الاجور في القطاع الخاص الاخيرة تجسّد دليلاً لا يقبل الشك على ذلك، اذ اجتمعت الحكومة كلّها وخصومها كلّهم وهيئات اصحاب العمل وقيادة الاتحاد العمالي العام في حلف وثيق لإطاحة مشروع نظام التغطية الصحيّة الشاملة وتمويله بالضرائب على الريوع العقارية والمالية. وخرج هؤلاء باتفاق «رضائي» أطلقوا عليه صفة «الاتفاق التاريخي»، الذي كرّس حرمان نصف المجتمع اللبناني الضمان الصحّي، وكرّس ايضا حرمان نصف الاجراء جزءاً مهماً من الأجر المسمّى «بدل نقل»، فضلاً عن حرمان كل الاجراء جزءاً مهماً من تعويضات نهاية الخدمة، بسبب «قوننة» إبقاء هذا البدل خارج الاجر... وعلى الرغم من ان هذا الاتفاق لا يصب في مصلحة إحداث تعديل ولو بسيطاً في آليات اعادة توزيع الثروة، فقد استكمل «الحلف» هجومه، ولم يلتزم بتطبيق «اتفاقه»، إذ إن معظم الاجراء لم يحصلوا على اي زيادة على اجورهم، ولا تزال اكثريتهم غير مصرّح عنها للضمان الاجتماعي، ولا يستفيدون من الحدّ الادنى للاجور الجديد، ولا من بدلات النقل والمنح التعليمية وغيرها... فهل كانت طاولة «الحوار» الاقتصادي بين هؤلاء ستفضي الى نتيجة مغايرة؟ بالطبع لا. الواضح، أن الهدف من وراء الدعوة الى «حوار اقتصادي» هو تأمين التغطية للحكومة، في مواجهة تحرّك هيئة التنسيق النقابية... فالحكومة تريد التراجع عن كل وعودها واتفاقاتها في شأن تعديلات سلسلة الرتب والرواتب في القطاع العام، فهي اخطأت في استعداداتها للانتخابات النيابية في العام المقبل، باغداق وعود تتجاوز ما طالبت به الهيئة في البداية، فاذا بها تقع في ورطة تأمين ايرادات اضافية كبيرة، تقدّر بنحو 2500 مليار ليرة، اي اكثر بكثير مما كان يحتاج إليه اقرار وتطبيق نظام التغطية الصحيّة الشاملة لجميع المقيمين... الا ان خصوم الحكومة وممثلي هيئات اصحاب العمل لا يشعرون بالخطر الجدّي هذه المرّة، في ظل عدم وجود اي طرف داخل الحكومة يدفع باتجاه فرض ضرائب معتبرة على الارباح العقارية والمالية، فهم يدركون ان مكوّنات الحكومة الحالية لن تذهب في أي تجاه يتعارض مع «المصالح» المشتركة، وبالتالي لا يشعرون الان بأنهم مضطرون الى مساعدتها، بل على العكس تماما، رأى البعض ان الفرصة سانحة اليوم لترك هذه الحكومة تخسر في مواجهتها مع اكثر من 250 الف موظّفة وموظّف في ادارات الدولة وأسلاكها التعليمية والعسكرية والامنية، وفي الوقت نفسه، ترك بند زيادة اجور العاملات والعاملين في القطاع العام معلّقاً الى اجل غير محدود، بذريعة «الازمة السياسية» وتعطيل مجلس النواب. بمعنى ما، احتاجت الحكومة الى «اتفاق تاريخي» جديد، فيما خصومها لا يشعرون بالحاجة نفسها طالما أن باستطاعتهم تحقيق النتيجة المتوخاة من دون الاضطرار الى مساعدتها، كما فعلوا في السابق، لاطاحة وزير العمل شربل نحّاس... اي إن «الحوار» المدعو اليه لم يكن حوارا اصلا، بقدر ما كان وسيلة «معتادة» لامتصاص التحرّكات الضاغطة التي يمكن ان تؤسس لميزان قوى اجتماعية «غير مضبوط»، وهذه الوسيلة توافرت فعليا من خلال التفجير الارهابي في الاشرفية، واغتيال رئيس فرع المعلومات وسام الحسن، ومحاولة اقتحام السرايا الحكومية ومقاطعة نوّاب 14 اذار لعمل مجلس النواب المتصل بعمل الحكومة. اليوم تواجه هيئة التنسيق النقابية معضلة حقيقية، فهي اضطرت الى ارجاء تحرّكاتها في الشارع لأنها تخشى من الانكشاف كليا على الانقسام السياسي الحاد، بما يهدد وحدتها، لكنها في الوقت نفسه لا تستطيع ان تبقى خارج دائرة الفعل، فقد تلجأ الى اسلوب «الضرب الخفيف»، اي اسلوب ابقاء القضية حيّة، وهذا الاسلوب لا يسمح لها بالحصول على شيء، او ربما يسمح لها بالحصول على اقل بكثير مما يرضي الفئات التي تمثّلها، او الاخطر، قد يسمح بانزلاقها نحو قبول ربط المكاسب البسيطة التي يمكن تحقيقها عبر التعديلات على السلسلة بالمزيد من الضرائب والاجراءات المضرّة بالاقتصاد الحقيقي، والفئات الضعيفة واعفاء اصحاب المصالح «الريعية» من تحمّل حصّتهم من العبء... لذلك قد يكون من مصلحتها الان «المخاطرة» بالخروج من الطابع «الفئوي» لتمثيلها ومطالبها، والسعي الى ملء فراغ كبير في تمثيل مصالح الفئات الاجتماعية المتضررة من النموذج الاقتصادي القائم، فمهما كانت النتائج ستبقى اقل كلفة من التراجع او الانزلاق الى قبول مزيد من التدمير للمجتمع والاقتصاد. لقد طرحت دراسة اعدّها البنك الدولي في اواخر عام 2011 في اطار برنامج «مايلز» سؤالا محوريا يجسّد المدخل الى اي حوار حقيقي: هل على المجتمع اللبناني أن يتكيّف باستمرار مع التأثيرات الخارجية على اقتصاده؟ ام يجب تكييف الاقتصاد اللبناني مع حاجات المجتمع؟. بمعنى اوضح، هل على اللبنانيين ان يرتضوا بتدمير مجتمعهم لخدمة اقتصاد ريعي اقليمي؟ وهل عليهم المحافظة على اقتصاد مستقل عن الشعب؟ او ربما لا يحتاج اليه طالما ان النشاطات المزدهرة فيه لا تحتاج الى «العمالة»، او يمكن احلال «عمالة وافدة» محل «العمالة المهاجرة»؟ هذا ما يواجهه العاملون والعاملات في الدولة والقطاع الخاص معا، فالتهديد الذي يستخدمه «اللوبي» الحاكم في مواجهة كل حركة مطلبية ينطلق من هذه المفاضلة تحديدا، اذ بات معروفا ان استهداف الريوع، وتغريمها بهدف اعادة توزيع الثروة على نحو اكثر عدالة، لا يصيبان مصالح هذا «اللوبي» فحسب، بل ينطويان على تغيير فعلي في بنية الاقتصاد نفسه، اذ إن الخيارات المعتمدة في العقدين الماضيين قامت على تشجيع تدفق الاموال من الخارج، ما استوجب في المقابل تشجيع الاستهلاك لاستعمالها واعادة تدويرها، بما في ذلك الاستهلاك الممول من الخزينة العامّة، وهو ما أسهم في ترتيب مديونية عامّة باتت تبلغ فعلياً نحو 70 مليار دولار، كما أسهم في تشجيع الهجرة من اجل المحافظة على هذا النموذج، والاهم انه أسهم في اضعاف الدولة، وجعل الاستيلاء عليها ومحاصصتها امراً في غاية البساطة والسهولة. بحسب دراسة البنك الدولي نفسها، بلغت التدفقات الخارجية التراكمية نحو 147 مليار دولار بين عامي 1993و2010، وموّلت هذه التدفقات عجزا كبيرا في تجارة السلع، يقدّر بنحو 121 مليار دولار. لفهم دلالات هذه الارقام المجرّدة، لجأت الدراسة المذكورة الى المقارنة بخطّة «مارشال» لاعمار كل اوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، إذ بلغت قيمة حزمة المساعدات الشاملة نحو 170 مليار دولار (بأسعار عام 2005)، ولم تتجاوز حصّة المانيا منها اكثر من10 مليارات دولار (بأسعار 2005)، فهل وضع لبنان اليوم يُقارن بوضع المانيا في عام 1965؟ طبعاً لا، فاستعمال التدفقات الخارجية لتمويل زيادة الاستهلاك، ادّى، في جملة ما ادّى اليه، الى رفع أسعار الاصول المحلية والسلع غير القابلة للتبادل، وبالتالي رفع رفع كلفة المعيشة واكلاف الانتاج المحلي، ما أضعف القدرة التنافسية للمؤسسات المنتجة للسلع والخدمات القابلة للتبادل (الزراعة والصناعة والخدمات المتطورة) وهي الاكثر توليداً لفرص العمل. وتعززت في المقابل الانشطة المنتجة للخدمات غير القابلة للتبادل (البناء، التجارة المحلية والخدمات البسيطة) وهي تعتمد اساساً على عمالة قليلة الكفاءة، وتلجأ في الغالب الى تشغيل عمالة وافدة متدنية الأجر... هذا ما حصل، فبدلا من ان تتحوّل هذه التدفقات الى فرصة للتنمية، ادّت الى تعميق ظاهرة الاختلال بين موارد الدخل المحلية والخارجية، وبدلا من ان تقوم السياسات المالية بدورها في تصحيح هذا النمط طيلة السنوات الماضية، صارت رهينة لاستمراره، ولجأت الحكومات الى تحصينه بتركيز العبء الضريبي على الاجور وميزانيات الاسر وترك العمل التوزيعي (أي استعمال الإدارة لتوزيع المنافع والوظائف) يتوسع على حساب نوعية الخدمات والاستثمارات العامة، وبالتالي ضمور الدولة وتحللها لمصلحة اطر دون مرتبتها ومتعارضة مع وجودها. وتكفي الاشارة إلى ان مجموع الايرادات العامة بين عامي 1993 و2010 بلغ نحو 180 الف مليار ليرة، وهو رقم يوازي قيمة كل الانفاق الجاري والاستثماري للدولة في الفترة نفسها، ما عدا خدمة الدين العام، التي بلغت نحو 100 ألف مليار ليرة، وهو مبلغ يساوي تقريبا قيمة الدين العام قبل شطب اعادة تقويم موجودات مصرف لبنان من الذهب دفتريا. هذا يعني ببساطة ان اللبنانيين دفعوا من جيوبهم قيمة كل الانفاق العام، ولم تكن هناك وظيفة للدين العام الا خدمة خيارات سياسية يدفع كلفتها الان كل العاملين والعاملات في القطاعين العام والخاص، والمهاجرين والعاطلين من العمل والعاملين على حسابهم في النشاطات الهامشية وغير المنظّمة. يحتاج الحوار ليستقيم الى من يمثل هؤلاء... فهل تبادر هيئة التنسيق النقابية الى ملء الفراغ؟ الجواب يبدو صعباً حتى الآن.