تستخدم اطراف عدّة، في الحكومة وخارجها، وفي هيئات اصحاب العمل ادوات الخداع لتعبئة رأي عام ضد زيادة الاجور... تُستخدَم المؤشرات المالية والاقتصادية السلبية للتهويل، لكن الهدف يبدو شديد الوضوح: المضاربون في المصارف والعقارات لا يريدون تحمل اي عبء ضريبي، ولا التنازل عن المكاسب المحققة في السنوات العشرين الماضية محمد زبيب الاخبار 3-12-2012 و ليس لدى هيئة التنسيق النقابية حلفاء حقيقيون في معركتها من اجل اقرار مشروع التعديلات على سلسلة الرواتب للمعلّمين وموظّفي ادارات الدولة وأسلاكها. وما عدا قلةّ قليلة جدّاً من الناشطين في الحقل العام، خضع الجميع ( تقريباً) لنوع من الارهاب يمارسه « اللوبي الحاكم» لمنع اي تعديل في النظام الضريبي تفرضه الحاجات التمويلية المتعاظمة في الموازنة العامّة ... كالعادة، تُرك هذا « اللوبي » يقدّم نفسه كمتحدّث شبه وحيد باسم « الاقتصاد اللبناني». ومرّة اخرى، ظهرت مكوّنات 8 اذار و14 اذار متحالفة في هذه المعركة مع « اللوبي » نفسه، ليتكرر المشهد الذي اختبره اللبنانيون في بداية هذا العام، عندما أُجهض مشروع التغطية الصحّية الشاملة وتحصين الاجور في القطاع الخاص بحجّة ان هذا المشروع سيؤدّي الى خراب البلد! وجرى حشد كل المؤشّرات السلبية التي يعانيها اللبنانيون منذ سنوات طويلة لاستعمالها في التصدّي لأي تغيير، بدلا من ان تكون حافزاً قوياً لفرضه فرضاً على اللاعبين المحكومين بمصالح انانية لا علاقة لها (اطلاقا) بالمصلحة العامّة، التي يجب على السلطة السياسية تأمينها . ها هي هيئة التنسيق النقابية تخوض معركتها وحيدة، ويكاد بعض اركانها يستجدون مواقف وآراء من الذين يدّعون الخبرة والمعرفة في الشؤون المالية والاقتصادية، لكي يردّوا على « خطاب التهويل» الذي تقوم به منظومة متكاملة تتحكم في السياسة والاعلام والنقابات... فقد نجحت الهيئة حتى الآن بالمحافظة على وحدتها، ونفّذت اضرابا نادرا ليومين شلّ ادارات الدولة وقطاع التعليم الاساسي، وهي هددت باللجوء الى الاضراب المفتوح في حال لم تعمد الحكومة في جلستها المقررة في العاشر من الشهر الجاري الى احالة مشروع التعديلات على السلسلة على مجلس النواب، الا ان بعض قادة الهيئة باتوا مدركين ان « خطاب التهويل» نجح ( الى حد بعيد) بحصر النقاش في الآثار السلبية المترتبة على زيادة الانفاق العام في ظل الظروف الراهنة، واستخدم من اجل ذلك سلسلة واسعة من ادوات الخداع يمكن اختصارها في الآتي : ــــ تركّز هيئات اصحاب العمل ومعها عدد من الوزراء والنواب على ان زيادة الاجور في لبنان تتعارض مع الاتجاهات العالمية، وهذا الكلام غير صحيح اطلاقا، اذ تكفي الاشارة الى ان مجموعة العشرين ( لوس كابوس، ١٩ حزيران ٢٠١٢) اقرّ ت بأن « العمالة الجيدة هي في صميم سياسات الاقتصاد الكلي . وان الوظائف المتماشية مع حقوق العمال وتغطية الضمان الاجتماعي والدخل اللائق... كلها عوامل تسهم في التصدي للازمة الاقتصادية » ، كما اعتبرت منظمة العمل الدولية ان « تراجع حصّة الاجور وزيادة حصة الأرباح وزيادة التفاوت في الدخل والتحولات من الأجور إلى حصص عوامل الإنتاج ... كلّها عوامل تفاقم التوترات الاجتماعية فضلاً عن أنها تكبح الاستهلاك الذي ما فتئ يمثل المحرك الأساسي للنمو». وأن « الأداء الاقتصادي القوي في الأرجنتين والبرازيل يعزى إلى التحسينات في توزيع الدخل من خلال زيادات كبيرة في القيمة الحقيقية للحد الأدنى للأجور، وإلى مد نطاق الضمان الاجتماعي وبرامج المساعدة الاجتماعية ». هذا التقويم الايجابي لزيادة الاجور في القطاعين العام والخاص ينطبق على بلدان لا تقل حصّة الاجور من نواتجها الاجمالية عن 50% ، فكيف في بلد مثل لبنان، تتراجع فيه حصّة الاجور الى نحو 21% من الناتج المحلي الاجمالي وتتوزّع الحصّة الاكبر (79%) على الارباح، ولا سيما ارباح المصارف والعقارات ! هذا المؤشّر وحده يكشف زيف ادعاءات « اللوبي الحاكم » ، ويُثبت ان معركته الضروس هدفها الوحيد المحافظة على هذه المكاسب التي تجسّد ضرراً اكيداً على الاقتصاد الحقيقي والمجتمع برمّته . ــــ تشيع منظومة التحكّم أن صندوق النقد الدولي نصح الحكومة بعدم المضي في مشروع تعديلات السلسلة، وان حاكم مصرف لبنان رياض سلامة نصح بذلك ايضاً في جلسة مجلس الوزراء المنعقدة في 7 تشرين الثاني الماضي... الا ان الحقيقة لا تدعم هذه « الشائعة » ، فلم يتسن لوفد صندوق النقد الدولي تقديم رأيه في شأن هذا المشروع، إذ تلقّى تعليمات بالمغادرة بعد جريمة اغتيال وسام الحسن، التي تزامنت مع وصوله الى لبنان... كما ان خلاصة الورقة التي قدّمها سلامة الى الوزراء تفيد بأن مصرف لبنان « لا يمكنه تحديد عواقب سلسلة الرتب والرواتب على المالية العامة الا من خلال دراسة سبل تمويلها » ، بمعنى ان سلامة لم يتخذ موقفاً سلبياً بالمطلق، بل ربط الاثار المحتملة بنوعية الضرائب واستهدافاتها ... وحسم بأن عدم اللجوء الى الاستدانة للتمويل واعتماد التقسيط عاملان اساسيان لتفادي ردات فعل نقدية مقابل ضخ السيولة في الاسواق... وهذا موقف جدير بالنقاش، إذ إن الاستدانة لتمويل اي زيادة في العجز (وليس فقط زيادة الاجور) يمكن ان تسهم في رفع الفوائد، كما ان خلق النقد يمكن ان يسهم في زيادة التضخّم ... وهذا الموقف (باستثناء التقسيط) يصب في دعم مطالب هيئة التنسيق النقابية، التي تصرّ على اقرار مشروع التعديلات على السلسلة وادراج كلفته في الموازنة العامّة والبحث في تمويل العجز المالي العام كلّه، وليس في تمويل الزيادات على الاجور وحدها، وذلك التزاما بنص الدستور الذي يفرض على الحكومة وضع موازنة عامّة شاملة غير مجزّأة... كما تطالب الهيئة بتمويل الزيادة في العجز المالي عبر فرض ضرائب جديدة على الارباح العقارية وارباح المصارف وزيادة الضريبة على ارباح الفوائد الى ما يوازي معدّلاتها على الشركات ... ويوضح شربل نحّاس في مقابلة له ان فرض الضرائب على نشاطات ريعية لا تسهم بانتاج الثروة الوطنية ولا بخلق فرص العمل هو امر يصبّ في مصلحة الاقتصاد ونموّه لا العكس، اذ إنه يسهم في نقل جزء من الثروة من جيوب عدد قليل من المضاربين الى جيوب عدد كبير من المواطنين، وهذا ما كان يسعى اليه نحاس في مشروعه الرامي الى تعميم الضمان الصحّي بهدف تأمين حق اساسي للبنانيين المقيمين وفرض تغيير في النظام الضريبي باتجاه تكليف النشاطات الريعية بالضريبة التغريمية، للحدّ من اثارها الكارثية على البلد ... وهذا تحديدا ما يقاومه « اللوبي الحاكم». ــــ يتجاهل « خطاب التهويل» الاسباب الفعلية لتراجع النمو الحقيقي الى ما دون 2% في هذا العام، وارتفاع معدّل التضخم الى 6% ، واحتمال تسجيل عجز في ميزان المدفوعات بقيمة 2.6 مليار دولار في نهاية هذا العام ... وهي مؤشّرات اساسية يرتكز اليها هذا الخطاب بعد ورودها في ورقة رياض سلامة الى مجلس الوزراء، واستخدامها من قبل وزير الاقتصاد والتجارة نقولا نحاس في ورقته المرفوعة الى مجلس الوزراء ايضا ... فهذه المؤشرات تؤكّد هشاشة الاقتصاد نتيجة ارتكازه على التحويلات الخارجية، وتخصصه في خدمة اقتصاد اقليمي ريعي ... ما ادى الى نشوء مصالح « وضيعة» تتفوق على مصلحة المجتمع عموما، وادّى الى ضرب قطاعات الانتاج ونسف فرص زيادة قدراتها التنافسية، وكل ذلك حصل في ظل تراكم الودائع في المصارف لتبلغ قيمتها اكثر من 128 مليار دولار، ما شجّع على استعمال هذه السيولة في تشجيع الاستهلاك، فارتفعت قيمة القروض للاسر والمؤسسات الخاصّة الى نحو 43.5 مليار دولار ( بحسب ورقة سلامة ) والى اكثر من 30.7 مليار دولار لتمويل العجز المالي في الموازنة العامةّ... ان هذا الواقع أمّن ارباحاً خيالية للمضاربين الماليين وكذلك للمضاربين العقاريين، وتكفي الاشارة إلى أن وزارة المال اقرّت في تقرير مرفوع الى مجلس الوزراء بأن البيوعات العقارية المصرّح عنها 2011 بلغت قيمتها نحو 13 الف مليار ليرة، اي إن حساباً بسيطاً يفيد بأن حجم البيوعات العقارية الفعلية يصل الى اكثر من 13 مليار دولار سنوياً، وهنا يكمن لب الموضوع، فالأرباح الطائلة في الريوع المالية والعقارية ليست مستهدفة بأي عبء ضريبي حقيقي، وهذا ما يحاول : اللوبي الحاكم » الدفاع عنه، إذ لو كان الهدف الدفاع عن الاقتصاد لكان الخطاب يتركّز اليوم على فوائد الدين العام، التي تستنزف نحو 6 الاف مليار ليرة سنويا من اموال الضرائب، وقد اشار سلامة في ورقته الى ان كل 1% من الفائدة يعادل 560 مليون دولار في خدمة الدين العام! اقتصاد العدد ١٨٧٢ الاثنين ٣ كانون الأول