الجهل الاقتصادي والمالي هو المرض الذي يصيب اللبنانيين. هذه النتيجة هي التي دفعت المعهد المالي في وزارة المال إلى المبادرة بمشروع «تعزيز الثقافة الاقتصادية والمالية»، فقد تبيّن أن معرفة الشباب بإدارة المال الخاص والمال العام ضئيلة. «يزداد الأثرياء ثراءً والفقراء فقراً، وتتخبط الطبقة الوسطى في الدين لأن التوعية على مسائل إدارة المال غالباً تبدأ في البيت لا في المدرسة». هذه العبارة لمؤلّف سلسلة كتب «الأب الثري الأب الفقير» روبرت كيوزاكي، اختارها المعهد المالي التابع لوزارة المال، لتكون شعار مشروعه الجديد «تعزيز الثقافة الاقتصادية والمالية في الثانويات الرسمية». هي ليست عبارة عابرة، بل لها في لبنان ترجمة عملية يمكن التعرّف عليها بسهولة بين نتائج الإحصاءات التي أجرتها مؤسسة البحوث والاستشارات، بناءً على طلب المعهد والبنك الدولي؛ إذ تكشف الدراسة أن أكثر من نصف اللبنانيين فقراء أو على عتبة الفقر، جاهلون اقتصادياً ومالياً ، وينفقون كل مداخيلهم من دون أي فاعلية، وليست لديهم رؤية أو الحدّ الأدنى من التخطيط لموازنة مستويات إنفاقهم مع مستويات دخلهم، وبالتالي ليس لدى هؤلاء الفقراء المحرومين من الثقافة الاقتصادية والمالية، قدرة على تقدير مصاريفهم فيما تحوّلوا إلى آلة للاستهلاك غير عقلانية ولا تقيم وزناً لمستويات الدخل ولفعالية الإنفاق. باختصار، هذا ما يمكن استنتاجه من نتائج الإحصاءات التي أُجريت بهدف معرفة مستوى الثقافة المالية والاقتصادية للبنانيين، لكن في خلفية هذه الإحصاءات هناك فاجعة كبرى عن جهل الشباب الاقتصادي والمالي. فبحسب الدراسة «كان لافتاً أن شباب لبنان يواجهون صعوبات في فهم النظريات الاقتصادية والتعاطي العملي مع انعكاسات إدارة المال الخاص أو المال العام». أبرز ما ورد في نتائج الإحصاء أن 63% من اللبنانيين يواجهون صعوبات في تأمين نفقاتهم الضرورية، لكن ما هو الضروري، وكيف يميّز اللبنانيون بين الضروري وغيره؟ بحسب المعطيات المتوافرة من معدّي الدراسة، تُرك لكل شخص أن يحدّد هذه الضرورة بالنسبة إليه، لكن لائحة الضرورات، في الإجمال، تشمل الأكل والشرب والسكن والتعليم والمياه والكهرباء والنقل... وكل هذه العناصر يمكن أن تؤلّف مؤشراً إلى مستوى الفقر في لبنان. فإذا كان بين هؤلاء اللبنانيين من لا يُعَدّ فقيراً وفق معايير أخرى، فإنه وفق هذا المعيار المتعلق بصعوبة توفير النفقات الضرورية يُعَدّ من دون أي شكّ على عتبة الفقر، وهو ينحدر شيئاً فشيئاً نحو الأسوأ. المؤشرات تزداد سوءاً عندما تكشف الدراسة أن «أكثر من 55% من اللبنانيين لا يتوافر لديهم أي فائض شهري من مداخيلهم»، لا بل إن الدراسة تؤكد أن قلّة من اللبنانيين لديهم حسابات ادخار مصرفية (الأرقام النهائية لم تصدر بعد عن المعهد المالي، لكن هذه التقديرات مستقاة من النتائج الأولية للإحصاء)، وأن مستوى معرفتهم بالمسائل المتصلة بالعمليات المصرفية، سواء القروض وشروط منحها أو الفوائد وطرق احتسابها أو أنواع الحسابات وغيرها، يزداد أو ينخفض بحسب مستويات الدخل. يُشار هنا إلى أنّ بيانات صندوق النقد الدولي تُفيد أنه بنهاية عام 2011، بلغ معدل المودعين 949 مودعاً بين ألف بالغ في لبنان بارتفاع نسبته 27% تقريباً مقارنة بعام 2005. وبلغ عدد المودعين 3.01 مليون شخص فيما تجاوز عدد حسابات الإيداع 4.71 مليون حساب. من جهة أخرى، بلغ معدّل اللبنانيين المقترضين 335.2 مقترض بين كلّ ألف لبناني بالغ، ما يُمثّل نمواً بنسبة 90.2%. وهكذا يحلّ لبنان في المرتبة 13 بين 79 بلداً توفّر البيانات الخاصة بهذا المسح والرابع في الفئة العليا من البلدان متوسطة الدخل، والثاني عربياً. وتوضح الدراسة أنّه كلما ارتفع مستوى الدخل لدى الشخص، تبيّن أن لديه معرفة أكثر بالمسائل المالية والاقتصادية عموماً وبإدارة المال الخاص والمال العام خصوصاً. وبما أن أصحاب مستويات الدخل العالي هم قلّة في لبنان، وفق تقديرات الدراسة أيضاً، فإن مستوى الجهل في إدارة المال الخاص والعام منتشر أكثر بين اللبنانيين، إذ إن «المعرفة بشؤون إدارة المال العام والمبادئ الأساسية لإدارة المال الخاص من الأمور الضرورية في عالم اليوم. فالأفراد، كما الحكومات، يواجهون تحديات مالية واقتصادية كبيرة بفعل الأزمات والتحولات التي يمر بها الاقتصاد العالمي» . ويكتمل المشهد المأساوي في لبنان مع الأرقام التي تدلّ على مستوى ثقافة اللبنانيين المالية والاقتصادية؛ فقد أثبتت العيّنات أن «70% من اللبنانيين لا يعلمون على نحو دقيق قيمة المبلغ المتوافر لديهم لسداد المصاريف اليومية». كما أن «50% من اللبنانيين لا يعون قيمة المبلغ الذي أنفقوه أسبوعياً، و50% من اللبنانيين لا يعدّون خطّة واضحة لمداخيلهم ومصاريفهم الشهرية، و71% لا يتخذون أي تدابير لتغطية النفقات غير المتوقعة». لكن الدراسة كشفت أن نسبة النساء اللواتي يعددن الموازنة الشهرية للمنزل تبلغ 58% مقابل نسبة 46% للرجال. إلا أن الرجال أفضل حالاً من النساء بالنسبة إلى التخطيط الطويل الأمد، ففيما هناك 5.7% من الرجال و2.5% من النساء الذين يخطّطون لفترة تمتد بين سنة واقل من سنتين، تبلغ نسبة التخطيط لمدّة تراوح بين سنتين وخمس سنوات 1.1% لدى الرجال و0.7% لدى النساء، لكنها ترتفع بالنسبة إلى التخطيط لفترة 10 سنوات وأكثر، فتبلغ لدى الرجال 4.8% ولدى النساء 1%. وكان المعهد المالي يهدف من خلال هذا الإحصاء إلى إيجاد روابط لتفسير سلوك اللبنانيين وتأثيرات الدخل عليهم، لكن ما تبيّن «أن الثفافة المالية للبنانيين عاطلة» تقول ميرا سعيدة من مؤسسة البحوث والاستشارات. يُشار إلى أنّ المعهد المالي بادر إلى وضع مجموعة نشاطات لتصحيح الخلل الذي أظهرته الدراسة بالنسبة إلى مستوى الثقافة المالية والاقتصادية، ونفّذ منذ عام 2009 إلى اليوم مجموعة نشاطات تحت عنوان «برنامج تعزيز قدرات أساتذة الاقتصاد في المدارس الرسمية»، ويعمل خلال الفترة المقبلة على «تطوير واستحداث أدوات تربوية تفاعلية حديثة كالكتيبات التثقيفية وعدد من النشاطات المختلفة». وهذه النشاطات تهدف إلى تعزيز معارف الأساتذة ومهاراتهم، وإلى تعريفهم بالمراجع الحديثة في هذا المجال، فضلاً عن تمكينهم من ربط المفاهيم بتطبيقات عملية وتطوير موارد تربوية تكون بتصرف التلامذة لتعزيز ثقافتهم في هذا المجال.