مقالات صحفية مختارة > التفتيش المركزي في موت سريري
شغور وقوانين في الأدراج وتقارير لا يؤخذ بها
مادونا سمعان السفير 10-12-2012
يملك المواطنون براهين ووقائع تفوق بأشواط ما قدّمه تقرير التفتيش المركزي للعام 2011 في شأن فساد الإدارة والفاسدين فيها. ولذلك مرّ مرور الكرام في «الجريدة الرسمية»، من دون أن يترك أثراً أو علامة استفهام واحدة عن أي من القضايا العامة التي أدرجها في فصوله. وقد بدا التقرير باهتاً، خصوصاً أن الملفات التي فتحت أمام الرأي العام أفظع بكثير، كتلك المتعلّقة بالدواء واللحوم الفاسدة. وإذا كان المواطن يتلمّس الفساد في أشغال الطرق والدوائر العامة ومصالح الكهرباء والمياه وفي المدارس والثانويات الرسمية، وقد باتت ممارسته واضحة ومن دون خجل، فإن التقرير أشار إلى انخفاض عدد العقوبات المتخذة من جانب التفتيش المركزي في العام 2011 بالمقارنة مع الأعوام الثلاثة التي سبقته. وبلغت 143 عقوبة، بينما كانت 200 في العام 2010، و215 في العام 2009 و191 في العام 2008. ومن بين الذين عاقبهم التفتيش أربعة موظفين من الدرجة الأولى، من بينهم موظف في وزارة الاتصالات وآخر في مؤسسات المياه واثنان في وزارة البيئة. وقد رصد التفتيش عموماً 362 مخالفة اتخذ بشأنها تدابير مسلكية. إلى هذا أصدرت «هيئة التفتيش المركزي» سلسلة توصيات إلى الوزارات والإدارات العامة، ومن بينها، أوصت وزارة الداخلية والبلديات بإنشاء قلم نفوس لائق لأبناء القبيات، واتخاذ الإجراءات القانونية المناسبة بحق موظف وموظفة في شركة «تتراكوم» المتعاقدة مع هيئة إدارة السير والآليات والمركبات للإشراف على أعمال المكننة وذلك وفقاً لأحكام عقد الاتفاق الموقع بين الهيئة والشركة. وأوصت مديرية المالية التابعة لوزارة المال بالطلب إلى مديرية الخزينة والدين العام إعطاء طلبات سحب سلفات الخزينة الصادرة وفقاً لأحكام المراسيم الخاصة بها، مجراها نحو الصرف مباشرة، تطبيقاً لأحكام المادة 207 من قانون المحاسبة العمومية. وطلبت من الوزارة نقل محرر موضوع بتصرف قاض عقاري من وظيفته إلى وظيفة لا يتعاطى فيها مباشرة مع المواطنين. ونقل مقدمة خدمات فنية إلى مركز عمل آخر، وتكليفها بمهمات لا علاقة لها باحتساب النفقات. ومن ضمن توصيات الهيئة لوزارة الأشغال والنقل، وضع خطة تهدف إلى النهوض بهذا القطاع من خلال تأمين حافلات جديدة بمواصفات فنيّة جيّدة تراعي الظروف المناخية وأوضاع الطرق في لبنان وتكون كلفة صيانتها غير مرهقة للموازنة العامة. ومن التوصيات المهمة، الطلب إلى وزارة الشؤون الاجتماعية متابعة عملية استرداد المبالغ المصروفة من طريق الخطأ، والتشدد في الرقابة الميدانية الدورية على المؤسسات المتعاقدة مع الوزارة واتخاذ الإجراءات المناسبة بحق كل مؤسسة تخالف بنود العقد الموقع معها. ومن خلال توصياتها للمؤسسات العامة، أوصت الهيئة «الجامعة اللبنانية» باحتساب التعويضات غير المستحقة المدفوعة لبعض الأساتذة والمستخدمين في الجامعة والعمل على استردادها، واسترداد التعويضات التي تقاضاها المتقاعدون خلال مدة خدمتهم في الجامعة من دون وجه حق. قد تكون تلك من أبرز التوصيات التي ذكرها التقرير، وإذا قورنت بميزان ملفات الفساد التي تُسرّب إلى الإعلام والتي يشهدها المواطن يومياً، يتحوّل التفتيش المركزي إلى مجرّد إدارة لحفظ ماء الوجه أكثر منه لتصحيح وتقويم اداء موظفي القطاع العام وووقف الهدر ومحاربة الفساد. يقول مصدر مطلع بقضايا التفتيش مدافعاً أنه «ما بقي القضاء والمؤسسات العسكرية ومؤسسة الضمان الاجتماعي ومجلس الإنماء والإعمار، على سبيل الذكر لا الحصر، خارج نطاق تقييم التفتيش فإن محاربته الهدر والفساد لن تأتي بالثمار المرجوة لها، لأن التفتيش والمؤسسات العسكرية والقضاء يجب أن تمشي بخط متوازن كأسنان المشط، فإذا أخلّت إحداها بالعمل المتوجّب عليها ماتت القضية. فالتفتيش يكشف مكامن الخلل وعلى القضاء والمؤسسات العسكرية المحاسبة لكن القضايا غالباً ما تقف عند حدود التفتيش». ويؤكد المصدر أن إدارة التفتيش المركزي تصرّ على مواقفها مهما خضعت لضغوط سياسية، أو قرارات سياسية تعيق عملها كالتعميم الصادر عن وزارة الأشغال العامة والذي يمنع بموجبه الموظف من تقديم أي تقرير الا بإذن من الوزير، «فالمفتش وفق القانون لا تخفى عليه أسرار، ويجب أن تفتح أمامه جميع السجلات والملفات» وفق المصدر، الذي يصرّ على أن التفتيش ما زال يحافظ على هيبته المستمدة من حياديته وموضوعيته. وإذا كان للتفتيش هيبة، فلماذا لم يؤخذ بتوصيته لجهة التزام أحد الموظفين من الدرجة الأولى بترك منصبه مديراً عاماً لإحدى الوزارات والبقاء على رئاسة إحدى الهيئات لعدم وجوب عمله في المنصبين قانوناً؟ يجيب المصدر بأن خلعه من أحد المراكز ليس من مسؤولية التفتيش بل مجلس الوزراء. من ناحية أخرى، أشار المصدر إلى أن «القلّة تولّد الفساد» وأنه على الحكومة تحسين رواتب موظفي الدولة «لأنها لا تكفي الموظف وعائلته، حتى إذا اكتفى بأكل الفلافل». وهو يؤكد أن التفتيش ما عاد يلجأ إلى حسم راتب الموظف أو تأخير تدرّجه فقط، بل بات يقصد «بهدلته» أمام زملائه والمواطنين في حال أخلّ بالقانون وتوقيفه عن العمل لمدة زمنية. وأكّد أن المواطنين هم أبرز ممارسي الفساد، كونهم يشجعونه ويدفعون الرشى لتسريع معاملاتهم بدلا من التبليغ عن إخلال الموظف بعمله. وفي رأيه فإن هذه الأمور، يضاف إليها الشغور الذي يفوق 45 في المئة في ملاك التفتيش المركزي، تعيق مسألة مكافحة الفساد بالشكل المطلوب.
قوانين للأدراج
لا يعرف المعنيون بالتفتيش المركزي لماذا ينام مرسوم ترفيع المفتشين من الدرجة الثالثة إلى الثانية في الأدراج من عشر سنين. «هناك سرّ لا نعرفه» يقول، لافتاً إلى أن المرسوم سلك طريقه على الخواتيم السعيدة من مجلس الوزراء إلى رأي التشريع والاستشارات في وزارة العدل وقبلها إلى مجلس الخدمة المدنية وتمت الموافقة عليه لمصلحة المفتشين. وبالتالي، فإن ما يمارس حتى اليوم هو عملية إحباط جهاز رقابة مؤتمن على حسن عمل الموظفين في القطاع العام. وفي الأدراج أيضاً مشروع قانون لتعديل المرسوم الاشتراعي الرقم 115 المتعلّق بإنشاء التفتيش المركزي الصادر في العام 1959. وهو بعد إعداده من جانب وزارة التنمية الإدارية، ووضع كل من وزراء التربية والداخلية والمالية والطاقة والدفاع كما إدارة التفتيش المركزي ملاحظاتهم عليه أتى بجملة تعديلات أبرزها إسناد مهمة التقييم الادائي المؤسسي للإدارات العامة إلى التفتيش وتقديم الاقتراحات لتطويرها بعدما كـان عمله فقط يتمحور حول المراقبة. وقـــدّ ضمّ إلى صلاحياته جميع العاملين في البلديات واتحادات البلديات. وأهم التعديلات تلك التي طالت المادة 18 من المرسوم وهي التي أصرّت عليها رئاسة التفتيش المركزي، فأضافت إليها فقرة ثالثة تعتبر من خلالها التقارير التي ينظمها كل من رئيس التفتيش المركزي والمفتشين العامين والمفتشين في الوقائع التي يتثبتون منها ذات صفة رسمية ولا يمكن الطعن بها إلا بادعاء تزويرها. وذلك بهدف إعطاء تقرير المفتش صفة أقوى من صفة تقارير الخبراء الذين يتم تعيينهم من قبل المحاكم كلما أراد موظف الطعن بتقارير المفتشين. إلى هذا، لا يعرف المعنيون بالتفتيش المركزي لماذا تنام في أدراج الوزارات والإدارات تقارير كشفت عن هدر وفساد بالمليارات، بينما أبطالها ما زالوا يهدرون المال العام ويمارسون الفساد فوق الطاولة. مادونا سمعان