البطالة متواصلة والهجرة مستمرّة... كله على ذمة السلطة (أرشيف) محمد وهبة الاخبار 31-12-2012 اللبنانيون مسلوبون أمام المشهد الاقتصادي. بطالة، هجرة، تضخّم أسعار، لا طبابة ولا استشفاء... معظمهم لا يعلم أن هذه البنود ليست أولوية بالنسبة للسلطة التي تبنّت منذ أكثر من عقدين خيارات مختلفة متصلة بالدين العام والاعتماد على المال الخارجي لتمويل الاقتصاد. هذه السلطة أغفلت، عمداً، كل الخيارات الأخرى تقفل سنة 2012 على المشهد نفسه. منذ سنوات طويلة تتكرّر الأولويات الاقتصادية والاجتماعية ذاتها. المطالب لم تتغيّر وهموم الناس لم تتبدّل وأهداف السلطة على حالها سواء انتقلت دفّة الحكم من ضفة إلى أخرى أو بقيت متجمّعة بالقسمة في ما بين الجميع. المتغيّر الوحيد هو مستوى الانحدار، ففي كل سنة يزداد الوضع سوءاً فتجري معالجته بواسطة «أولويات» مختلفة تأخذ شكل «الأمر الطارئ». أولوية الحكام بسهولة ويسر يستمرّ النهج المتّبع منذ سنوات. هو النهج صاحب الفضل في تحريف كلمة الأولويات الاقتصادية؛ فبدلاً من مناقشة الخيارات والأهداف، تمكن هذا النهج من إلغاء «مقنّع» للنظرة الأخرى بألف وألف ذريعة. قيل للبنانيين: من منكم لا يريد مطاراً، أو جسوراً وطرقات، أو مستثمرين أجانب يضخّون أموالهم هنا... بكل بساطة عملوا على استبعاد خيارات أخرى. فاللبنانيون كانوا يريدون مكافحة البطالة ووقف الهجرة، بالإضافة إلى كهرباء منتظمة، ووظائف وطبابة واستشفاء... للأسف جرت التعمية على أهداف من هذا النوع بوضعها في خانة أهداف أخرى تهمّ الفئة الحاكمة. إنها «أولوية الحكّام». المشهد المتكرر منذ أكثر من عقدين، نسير على نمط واحد ليست نهايته في عام 2012. فاليوم، يحتلّ الدين العام أولى درجات الأولوية. وتبنى على هذا الأمر قاعدة متشعّبة من الأولويات الأصغر حجماً. فالدين يزداد مما يتطلب زيادة التمويل من مصدر أساسي هو المصارف. أما هذه الأخيرة فأرباحها هي الأهم للاستمرار بتمويل الدولة. عند هذه النقطة يصبح الاقتصاد كله مرهوناً بمطالب الدائن الأكبر الساعي إلى تحقيق أرباح سهلة وسريعة. ثم تأتي النشاطات الريعية لتحقق أهداف الدائن... وبين التركيبة السياسية في لبنان الساعية إلى الأهداف نفسها، أي الأموال السهلة والسريعة، وبين «أولوية الحكّام»، يصبح إنفاق الدولة محكوماً بمجموعة قيود يفرضها هذا النموذج الاقتصادي. وفي المحصلة تكون النتيجة على شكل المشهد الآتي: بطالة تستكمل بالهجرة، أي أن الوظائف في لبنان لا تكفي شبابه، ما يدفع أبناء البلد إلى السفر بحثاً عن عمل. مؤشرات الفقر ترتفع، خصوصاً كلما ابتعدنا أكثر عن الوسط، أي بيروت وجبل لبنان حيث تتركّز الأعمال. الأسعار في ارتفاع مستمرّ مدفوعة بارتفاع أسعار العقارات التي تمثّل الريع الأكثر تحقيقاً للأرباح السهلة. أما التطوّر والرفاه الاجتماعي فلم يخرج من طور الحلم ليصبح أمراً واقعاً بعد، إذ إن نصف اللبنانيين بلا أي تغطية صحية، والتقديمات الاجتماعية تستعمل أداة سياسية ــ انتخابية... اللائحة طويلة جداً ولا تتسع لوصف المشهد بكامله، لكن نظرة واحدة إلى فقراء منطقة الكولا وحيّ السلّم والطريق الجديدة وعكار والضنية والبقاع والجنوب وبرج حمود ومناطق الجبل وسواها، تكفي للإقرار بأن «أولويات الحكّام» ليست خيار اللبنانيين، بل إن هذه الأولويات دفعت حالهم إلى أسوأ مما كانت عليه حين كشفت الدراسات عن أن فئة قليلة لا تتجاوز 20% من اللبنانيين تحقق الثراء على حساب الفئات الأخرى المتوسطة والمعدومة. ليس في وسع أحد أن يعالج كل هذه المشاكل في عام واحد، لكن آمال الخبراء تذهب نحو أمر مختلف في عام 2013: هل بات لدى السلطة الحاكمة قناعة بضرورة التغيير؟ هل تقبل هذه السلطة مناقشة الخيارات والمفاضلة بينها؟ المفاضلة لا المفاصلة لعل المفاضلة بين الخيارات كانت تجسّد أولويات الوزير السابق شربل نحاس. في مطلع عام 2012 كان نحاس وزيراً للعمل في الحكومة الحالية، واختبر «فظاعة المفاضلة» ووضع خيارات اقتصادية واجتماعية على طاولة النقاش. لم يكن مشروع التغطية الصحية الشاملة المموّلة من الضريبة حلمه الوحيد... إلا أنه كان باكورة النقاشات التي استمرّ بطرحها إلى ان استقال احتجاجاً على موقف الكتلة التي يمثّلها وحلفائها من الخيار الاجتماعي الذي سعى إليه. اليوم، عاد نحاس إلى الساحة القديمة، ساحة الخبير المراقب والناقد. في رأيه، إن كلمة أولويات اقتصادية لا تعني أمراً داهماً، بل هي تشير إلى المفاضلة بين مجموعة خيارات، وأيها الأفضل لاستخدام موارد الدولة المحدودة. فعلى سبيل المثال، يعتقد نحاس أنه بمجرد طرح الحكومة لموضوع كيفية تمويل سلسلة الرتب والرواتب «فإن هذا يعني أن تصحيح أجور القطاع العام يقع في المرتبة الأخيرة ضمن قائمة أولويات السلطة». ويرى أن مثل هذا الطرح هو عبارة عن طريقة للالتفاف على المطلب الأساسي وإلغائه من قائمة «النقاش في الخيارات»، فالسلطة لم تذكر بتاتاً أنه أمر ثانوي في سلّم أولوياتها، لكنها فعلياً قرّرت وضعه ضمن قانون خاص خارج الموازنة العامة، ثم قالت إن الوضع لا يسمح بدفع كل هذه المبالغ. ومن أبرز مظاهر هذا الالتفاف على قائمة النقاش، اعتبار الدين العام ذا أولوية قصوى «لا أحد يناقش فيها، لا بل لم يجرؤ أحد على اعتبارها أولوية يمكن مناقشتها، ولم يخط أحد باتجاه الاتصال بالدائنين للتفاوض معهم سواء لتأجيل الدين أو خفض مستوياته ولو استعملوا الذرائع التي يستعملونها لإقصاء الخيارات الأخرى...»، وبالتالي فإن الدين العام يقع في الصف الأمامي. ويشير نحاس إلى أنه جرى تحريف كلمة «أولويات» لاستبعاد الخيارات الأخرى التي قد تؤدي إلى استبدال الأهداف الحالية بأهداف أخرى فتصبح الأولوية القصوى من نصيب بند آخر كان مستبعداً. ولهذا الأمر «تطبيق عملي» واضح المعالم. فعلى سبيل المثال، يعدّ ميزان المدفوعات الهدف الرئيسي للسلطة في لبنان. لكن ما يظهر، هو أن ميزان المدفوعات يعدّ هدفاً رئيسياً لزيادة ثروات أصحاب العمل. فالسلطة، ترى أنه يجب الحفاظ على فائض في ميزان المدفوعات من أجل تأمين موارد للاستهلاك المحلي وتغطية العجز التجاري. وهذا يعني، أنه يجب أن يستمرّ تدفق الأموال من خارج لبنان سواء من المغتربين أو غيرهم لتمويل استهلاك الأسر المقيمة، ولتغطية العجز التجاري الناجم عن ارتفاع الاستيراد وانخفاض التصدير. لكن في الواقع، العجز التجاري ناجم عن تقلص قدرة القطاعات الإنتاجية مثل الصناعة والزراعة، فيما زاد اعتماد الاقتصاد المحلي على المال الخارجي لتغطية استهلاك الأسر والاستيراد. في المقابل، يعتقد نحاس أن هناك خيارات أخرى تقلب الأهداف الحالية وتضعها في خانة الهموم، إذ «علينا أن نجد السبل المناسبة لاستثمار الموارد المالية والبشرية في خدمة أهداف أخرى مثل مكافحة البطالة التي تستكمل بالهجرة، على أن يبقى الدين العام كهمّ مالي موجوداً... لكن بات ضرورياً أن نخلق وظائف للبنانيين حتى تنخفض معدلات البطالة والهجرة، وحتى نوقف كل ما ينبت على هامش الخيار المعتمد حالياً من توظيفات سياسية في الإدارات العامة وإقرار دعم لتوزيع أمواله يميناً ويساراً». وهذا الخيار، يختلف عن الوضع الحالي بكل سياساته وآلياته... «المهم أن يكون هو الهدف» يقول نحاس. محفز سياسي على أساس هذه المعايير الواضحة لموضوع الأولويات الاقتصادية والمالية، هناك الكثير. فبحسب الوزير السابق جورج قرم على الحكومة أن تقرّ قانون الانتخاب الذي يعدّ أولوية بما له من مفاعيل وآثار على الانتظام العام والاقتصاد. ويرى أن على الدولة «إقرار قانون انتخاب جديد يرضي الأطراف السياسيين ويعتمد مبدأ النسبية، لأن عدم إقراره يعني استمرار التجاذب وعدم اليقين بحصول انتخابات أو التشكيك بحصولها مما يخلق جواً اقتصادياً غير سليم، علماً بأن عامل عدم اليقين يكون له تأثير سلبي على المستثمرين الذين يؤجلون قرارات الاستثمار إلى حين حسم موضوع الانتخابات وإجرائها». ويطرح قرم خيار «العودة إلى اقتصاد منتج في كل القطاعات، سواء في صناعة الخدمات ذات القيمة المضافة المرتفعة، أو أي نوع آخر من الإنتاج، فضلاً عن الزراعة التي تؤدي إلى تنمية كل المناطق وكسر الاستقطاب، إذ إن 80% من النشاطات الاقتصادية منتشرة على مساحة تتراوح بين 80 و100 كيلومتر مربع، فيما الذين يعيشون على المساحة الباقية هم عرضة للتهميش». ومن شأن هذا الأمر أن يكسر حصرية الاقتصاد بنموذجه الحالي المتمثّل بقطاعات معيّنة مثل القطاعات العقارية والمالية والمصرفية... وفي السياق نفسه، يعتقد الخبير الاقتصادي غسان ديبة، أن هناك 3 أمور تعدّ ضمن الأولويات: تعديل النظام الضريبي، إقرار سلسلة الرتب والرواتب، تحفيز الاستثمار العام لتحفيز الاقتصاد. 3 قضايا رئيسية لكل من هذه البنود أهداف وموجبات واضحة. فبحسب ديبة، يشهد الاقتصاد اللبناني أزمة كبيرة بسبب اعتماده على الطلب الخارجي لتحفيز الاقتصاد. واليوم، بسبب الأوضاع المعروفة، توقفت السياحة وخفّ تدفق رؤوس الأموال إلى حدود كبيرة، وبالتالي بدأنا نقف على منعطف طريق لمعالجة هذه المشكلة. ويرى أن «الطريقة الوحيدة للخروج من هذه الأزمة هي عبر تحفيز الطلب الداخلي والاستهلاك المحلي من خلال زيادة الاستثمار العام، أي زيادة إنفاق الدولة». وفي رأيه يتم من خلال «زيادة الأجور والاستثمارات التي تقوم بها الدولة في البنية التحتية». ومن شأن اعتماد مثل هذا الخيار، أن يحفز النموّ الاقتصادي ويعالج مشكلة التوظيف. أما بالنسبة إلى إعادة النظر بالنظام الضريبي في لبنان، فهو «أمر ضروري لزيادة العدالة الضريبية، علماً بأن معدل الضريبة الحقيقي على الأرباح يتجاوز 3%، ما يوجب علينا إخضاع الأرباح لهذه الضريبة ورفع الضريبة على الفوائد وعلى الشركات والأموال» يقول ديبة. ________________________________________ «هيدا لبنان» يرفض الوزير السابق جورج قرم أن يخسر الأمل. فعلى رغم أن الأولويات نفسها تتكرّر سنوياً من دون أن يتحقق منها شيء، يشير هذا الرجل إلى أن المشكلة في لبنان «أنه من وقت إلى آخر هناك ثورة لمشاريع طنانة رنانة وغير قابلة للتنفيذ... ثم تسبّب استقالة الوزير المعني. في لبنان يجب العمل على الهامش باستمرار وليس بالإمكان إجراء ثورة بضربة واحدة سواء بالشؤون الاقتصادية أو الاجتماعية أو المالية أو غيرها». ببساطة، كلام قرم يعني أن إمكان تحقيق خرق ما في السياسات الاقتصادية للبنان أمر صعب بسبب تشابك المصالح السياسية بالاقتصادية وبالطائفية والمناطقية... «هيدا لبنان». اقتصاد العدد ١٨٩٥ الاثنين ٣١ كانون الأول