تكشف فاتورة لبنان للاستيراد عن عورات النظام الاقتصادي والتحوّلات الطارئة على المجتمع اللبناني. ففيما كان يفترض أن يكثّف لبنان إنتاج السلع الصناعيّة والزراعيّة والتكنولوجية، بات اللبنانيون ينحدرون أكثر نحو تصنيف اقتصادي متدنٍّ يجعلهم عبارة عن آلات استهلاكية محمد وهبة الاخبار : 31-1-2013 قلّة الإنتاج في لبنان تبدو واضحة المعالم في فاتورة التصدير الإجمالية التي بلغت عام 2012 نحو 4483 مليون دولار، يغلب عليها طابع الخردة أكثر منها منتجات حقيقية (8% من الصادرات هي خردة نحاس وحديد وألمنيوم!)، لكن إحصاءات الجمارك اللبنانية تشير إلى أن 4 أنواع من السلع تمثّل 41% من مجمل قيمة واردات لبنان، وأن نحو 21 نوعاً من السلع تمثّل 58% من فاتورة الاستيراد. في عام 2012 ارتفعت فاتورة الاستيراد لتبلغ 21279 مليون دولار، أي بزيادة قيمتها 1122 مليون دولار، مقارنة مع مجمل قيمة واردات عام 2011 التي بلغت 20158 مليون دولار. وفي عام 2011، ارتفعت فاتورة الاستيراد بما نسبته 12.2% أو ما قيمته 2194 مليون دولار. أما في السنوات الخمس الأخيرة، فقد ازدادت فاتورة الاستيراد بقيمة 9465 مليون دولار، أي بمعدل وسطي يبلغ 1893 مليون دولار سنوياً. وبذلك تكون واردات لبنان قد تضاعفت قيمتها 1.8 مرة خلال 5 سنوات. هناك أكثر من تفسير لهذه الزيادة التي تعدّ كبيرة وترتّب أعباء هائلة على الاقتصاد الوطني الذي يموّل كلفة هذه الواردات بالعملات الأجنبية، أي بالدولار واليورو. الأمر ليس بالغ التعقيد، فالسؤال هو من أين تأتي هذه الدولارات؟ إن لم تأت من المغتربين، فعليها أن تأتي من الصادرات التي تباع بالعملات الأجنبية في الخارج، أما إذا كانت المبالغ بالعملات الأجنبية الواردة إلى لبنان أقل بأضعاف من تلك الخارجة منه، فلا شكّ أن هناك خللاً في التوازن النقدي سيرتب عبئاً على الاقتصاد لتمويل كل هذه الواردات. مشكلة لبنان لا تنحصر في هذا الخلل فقط، بل تتوسع مع هذا النموذج الموضوع لحركة التدفقات النقدية بالليرة وبالدولار والخارج والداخل إلى حدود الثقافة الاستهلاكية. فالاعتماد أكثر على التدفقات الخارجية يدفع اللبنانيين بعيداً عن البحث عميقاً في تكثيف الإنتاج ويحفّزهم أكثر نحو الاستهلاك المموّل بالمال السهل من الخارج. أبرز دليل على هذا الوضع، إحصاءات الجمارك اللبنانية. الأرقام تجزم، بما لا يقبل الشكّ، بأن اللبناني هو آلة استهلاك يوميّة تشبه إلى حدّ ما المستهلك الخليجي ذي القدرة المرتفعة والدخل الفردي الذي لا يقلّ عن 40 ألف دولار سنوياً، لكن اللبناني يعيش في دولة لا تملك موارد طبيعية مثل النفط (حتى الآن) ويبلغ فيها معدل الدخل الفردي 10 آلاف دولار سنوياً. في هذا السياق، تشير الإحصاءات إلى أن أكثر سلعة مكلفة على الاقتصاد اللبناني هي النفط ومشتقاته، إذ بلغت قيمة هذه الواردات 26% من مجمل فاتورة الاستيراد، أو ما قيمته 5.5 مليارات دولار، ومن هذه الكميات النفطية ما أُعيد تصديره بقيمة 72 مليون دولار. أما السلعة الثانية الأكثر كلفة بين الواردات، فهي تمثّل رفاهية اللبنانيين، وهي الذهب الذي يمثّل 6% من الواردات أو ما قيمته 1.18 مليار دولار. ويلي ذلك، السيارات السياحية التي جاءت في المرتبة الثالثة بين أبرز واردات لبنان، مسجّلة ما قيمته 1.1 مليار دولار وما نسبته 5% من الواردات، ثم تأتي الأدوية التي تبلغ قيمة وارداتها 831 مليون دولار، أو ما نسبته 4% من مجمل الواردات. تدل غالبية الواردات على حياة الرفاهية رغم أن غالبية اللبنانيين هم من الطبقة المتوسطة وما دون، لكنهم يهتمون بمظاهر الحياة الاستهلاكية، وينسجمون مع ما يفرض عليهم من سلع، وخصوصاً في الجانب التكنولوجي، مثل الأجهزة المتقدمة وأجهزة الهاتف، وهناك مؤشر واضح يستدل إليه من حجم تجارة السيارات وقطع السيارات المستعملة... والنمط الاستهلاكي لا يقف عند حدود الاستهلاك الفردي، بل هو استهلاك عائلي أيضاً واستهلاك مؤسساتي وقطاعي. فاللبنانيون يستوردون مكيّفات بقيمة 71 مليون دولار، وبرادات بقيمة 76 مليون دولار ومبيدات أعشاب بقيمة 43 مليوناً، وفحماً بقيمة 48 مليون دولار، وكحولاً بقيمة 65 مليون دولار... اللافت أن اللبنانيين يستوردون مياهاً معدنية بقيمة 50 مليون دولار، رغم وجود ثروة مائية كبيرة في لبنان وعشرات الشركات التي تنتج هذه السلعة، ويستهلكون أيضاً لحوم بقر مجمّدة ومبرّدة بقيمة 93 مليون دولار، أي ما يوازي تقريباً استهلاكهم للحوم الحيّة. كما يستوردون أثاثاً منزلياً بقيمة 105 ملايين دولار وأدوية وتجهيزات طبية للجراحة وطب الأسنان بقيمة 105 ملايين دولار أيضاً.