لو مضى لبنان على النمط نفسه المسجّل عام 1974، لكان حجم اقتصاده حالياً 190 مليار دولار بالحدّ الأدنى. عشيّة الحرب الأهلية كان يُمثّل قرابة 70% من اقتصاد سنغافورة؛ اليوم شتّان ما بينهما. ولكن كيف تجود البلاد من الموجود؟
حسن شقراني الاخبار 5-2-2013
يتخبط لبنان حالياً بين أمواج توليفات مختلفة لحسم استحقاق الانتخابات النيابية قبل وقوعها في صيف 2013. قد يحلّ التوافق عقدة السيطرة المطلقة، وقد تنفلت الأمور كلياً لترتسم في لبنان فعلياً انعكاسات تحوّلات محيطه. في جميع الأحوال هناك خسارة واقعة تتمثّل في استمرار تركّز الثروة، ضعف الاقتصاد بنموذجه الطائفي القائم في القطاعين العام والخاص، وصولاً إلى تردّي الخدمات العامّة. لا شكّ في أنّ تركيبة البلاد واستلاب إرادة شعبها شكّلا السبب الرئيسي لفشل هذا المجتمع خلال مرحلة ما بعد انتهاء الحرب في بناء الدولة القادرة على القوننة، الرعاية وتحقيق التنمية وخلق البيئة المناسبة للأعمال الشفافة؛ اليوم تلك الخسارة تزداد. «يعمل الاقتصاد اللبناني عند مستوى أدنى بكثير من طاقته الممكنة»، يُلاحظ المدير المالي والاستراتيجي في بنك «عوده» فريدي باز. «لأسباب كثيرة ومتشابكة تأخّرت انطلاقة الاقتصاد، وهذا هو المؤسف». وفقاً للحسابات التي يعتمد عليها هذا الخبير، فإنّ الاقتصاد حالياً يعمل بنسبة 70% فقط من طاقته الإنتاجية – ما يُسمّى اقتصادياً «Capacity Utilization Ratio» – ويُنتج 43 مليار دولار، وهو الناتج المحلي الإجمالي؛ هذا يعني أنّ الطاقة القصوى الممكنة هي 60 مليار دولار. يُسقط فريدي باز من هذا الرقم الإجمالي معدّل الدخل المستهلك خلال عملية الإنتاج، ويُقدّم الرقم المحافظ الآتي: الإنتاج في لبنان يُمكن أن يكون بسهولة 55 مليار دولار إن استُغلّت المقوّمات الموجودة «من دون مناكفات سياسية». هوّة الإنتاج – أي الفرق بين المحقق وما يمكن تحقيقه – هي 12 مليار دولار إذاً. وبحسابات سريعة أيضاً، وبعيداً عن حكم النموذج الاقتصادي السياسي الطائفي الذي يوزّع الدخل، يُمكن تقسيمها على اثنين: الأجور والأرباح. «هذا يعني أنّ هناك 6 مليارات دولار تفوت سنوياً على 800 ألف عائلة، أي بمعدّل 7500 دولار لكل لعائلة سنوياً»، يمضي باز بتحليله. «ومن جهة أخرى هناك 6 مليارات دولار فائتة على المؤسسات على شكل أرباح يُمكن أن تُعيد استثمارها لتنشيط الحركة الاقتصادية». جميعنا يعي أن تقسيم الدخل في لبنان لا يكون في احتفال سنوي عنوانه «عدالة التوزيع»، بدليل موقف أصحاب العمل خلال النقاش الدامي بشأن تصحيح الأجور عام 2012 حين تعلّقوا برساميلهم التي راكموها خلال الفورة الاقتصادية بين عامي 2007 و2010 (وحتّى في العام اللاحق)، وقالوا إنّهم لن يستخدموا تلك الأموال لتصحيح الأجور، بل للاستثمار (أي استثمار!). لكن رغم هذا المعطى البديهي، هناك فجوة دخل موجودة في لبنان من دون محاججة. وهناك مقوّمات يجب استغلالها. حالة الضعف هذه هي فصل من كتاب الفشل الاقتصادي والسياسي طوال العقدين الماضيين. بحاسبات محافظة كان يُمكن أن يمضي الاقتصاد على سكّة النموّ المستقرّة (الدامج إذا أمكن لا الإقصائي) المسجّلة عشية الحرب وتخطّي عتبة 90 مليار دولار (ما يُرمز إليه تقنياً بالآتي: Steady State Level of GDP). وبحسابات مطلقة، كان بإمكان لبنان أن يُحافظ على وضعيّته أمام بلد معياري يُشبهه من حيث عدد السكان وتركيبتهم الإثنية: سنغافورة. عشية الحرب المشؤومة نفسها، كان اقتصاد لبنان يُمثّل 70% من اقتصاد هذا البلد الآسيوي. ولو أنّ المعدل بقي ثابتاً لكان حجمه حالياً يفوق 190 مليار دولار، وترتفع حصّة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي فوق 47 ألف دولار. لكن البلاد فشلت في الحالتين ولا تزال. لماذا؟ أحد الأبحاث التي تطرّقت بعمق إلى أسباب الفشل الاقتصادي والسياسي كتاب صدر عام 2012 بعنوان: «لماذا تفشل الأمم؟ أصول القوّة، الازدهار والفقر». يُحاجج معدّاه، أستاذ الاقتصاد السياسي في جامعة هارفارد جايمس روبنسون وأستاذ الاقتصاد في جامعة «MIT» دارون آسيموغلو، بأنّ فشل المجتمعات على طريق الازدهار والتنمية لا يعود إلى المناخ ولا الطقس ولا الجغرافيا ولا الثقافة (ومن ضمنها الدين) ولا الجهل... برأيهما يكمن سرّ الازدهار والتنمية في المؤسسات السياسية الاقتصادية التي يقوننها المجتمع وترفع حظوظه في المسيرة نحو النجاح. خلال وجوده في لبنان أخيراً لمناقشة تحليله الذي استغرق 15 عاماً من الأبحاث، شدّد جايمس روبنسون في دردشة مع «الأخبار» على خلاصته الأساسية بالنسبة إلى لبنان ومحيطه. برأيه، هناك «طرق مختلفة للتحديث، انظر إلى اليابان التي حدّثت اقتصادها والكثير من مؤسساتها ومجتمعها ونظامها السياسي، ولكنها حافظت على تمايزها الحضاري عن الغرب: الدين الثقافة المطبخ العلاقات الاجتماعية». يقول إنّ «على الشعوب ــ أكانت معنية مباشرة أم ذات مصالح ــ أن تتقبل نتائج الانتخابات الديموقراطية، أكانت تلك النتيجة (فوز) حماس أو الإخوان المسلمين». لا ينفي الكاتب أنّ السؤال عن التوليفة المناسبة للتنمية واستغلال مقوّمات المجتمع، يُصبح «صعباً في منطقة الشرق الأوسط... وأنا أعي أن لبنان يعاني من تدخلات خارجية كثيرة، من الولايات المتّحدة وسوريا وغيرهما». وهنا تحديداً العقدة التي بدأنا منها. المشكلة في لبنان حالياً هي غياب الأساس الأولي لإتمام عملية ديموقراطية وتقبّل نتيجتها. وما يتجاهله البحث، وربما الكتاب الذي يُقارب حجمه 550 صفحة، أنّ هناك في لبنان ديموقراطية توافقيّة، تؤدّي إلى توافق مكونتها على جعل الازدهار والتنمية بمعناهما الحقيقي على أسفل سلّم الأولويات. لكن يبقى ما يُفيد بالأمل. فأبو سنغافورة – أول رئيس حكومة – لي كوان يو، بناها على أسس ديموقراطية خاصة لتذليل العوائق الإثنية، الدينية وحتى اللغوية. في المقابل، تتقدّم المخاوف الوجودية على الازدهار لتكون محور النقاش حول القانون الانتخابي في لبنان حالياً.