مقالات صحفية مختارة > يا شعب لبنان العظيم: المــصارف أهمّ منك... وأبقى
لا يخفي المصرفيون اللبنانيون ذهولهم من سرعة الاستجابة لمصالحهم التي باتت متشابكة جدّاً مع مصالح المهيمنين على الدولة وريوعها... يروي أحدهم أنهم طرحوا على حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، ورئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي، حاجتهم إلى الدعم في أواخر تشرين الثاني الماضي، فكان لهم ما يريدون بعد شهر واحد فقط: 2200 مليار ليرة فوراً لتوفير هذا الدعم، أي أكثر مما تحتاجه الدولة لإعادة التيار الكهربائي أو توفير التغطية الصحية الشاملة أو تصحيح سلسلة الرواتب! محمد زبيب الاخبار 11-2-2013 «إذا لم ننتبه للأمر، فإن بلدنا الصغير سيضيق بنا أكثر فأكثر. علينا أن نتذكر دائماً أننا لا نملك سوى أكثر بقليل من 10 آلاف كيلومتر مربع فقط (...) يجب أن ننظم أنفسنا كي لا نضيّع، في بقاعنا أو ساحلنا أو شمالنا أو جنوبنا، أيّاً من ثرواتنا الطبيعية، أن لا نضيّع ذرّة واحدة من التراث والجغرافيا والتاريخ التي قدّر لنا امتلاكها (...) علينا أن لا نكتفي ببسمة الضيافة التي عُرف بها لبنان، بل أن يكون هذا البلد حاضناً لكل أبنائه (...) وهذا يفترض منذ الآن إنشاء فرع خاص من العمل السياسي والإداري، ومؤسسة مستدامة تعمل باستمرار على جمع الإحصاءات وتحليلها وتصوّر المشاريع الضرورية (...)». بداية، يجدر التشديد على أن هذه العبارات لم ينطق بها فؤاد شهاب ولا شربل نحّاس أو إلياس سابا أو جورج قرم أو إميل البيطار... أو أيّ من الذين بذلوا محاولات لإدخال «إصلاح» ما انطلاقاً من مواقعهم داخل مجلس الوزراء أو مجلس النواب... كذلك لم ينطق بها نجاح واكيم الذي أصدر كتاب «الأيادي السود» ولا عاصم سلام الذي واجه مشروع «سوليدير» أو هنري إدّة الذي كتب مذكّراته في «المال.. إن حكم»، ولا سليم الحص أو ألبير منصور أو زياد بارود... وبالطبع لم ينطق بها حزب يساري أو مثقفون ماركسيون أو اشتراكيون... هذه العبارات هي مقتطفات من مقال نشره ميشال شيحا في 21 آب من عام 1945. حينها، كان ميشال شيحا (الذي تُرمى عليه كل موبقات النظام السياسي ونموذجه الاقتصادي القائم) مدركاً تماماً أن «مسيحيته» وفكره «الليبرالي» وإيمانه العميق بالرأسمالية وقناعته الراسخة بعدم قدرة هذا البلد على تطوير قاعدته الإنتاجية من دون الارتباط بمراكز خارجية قوية والارتكاز على تخصص حاسم في مجال الخدمات والوساطة... هي نفسها عوامل شدّته إلى التنبيه من المخاطر التي تواجه هذا البلد والقاطنين فيه. يومها كان عدد المقيمين في لبنان لا يتجاوز مليون نسمة، وبعد نحو 67 عاماً، بات عدد المقيمين يتجاوز 4 ملايين نسمة، وهو سيواصل ارتفاعه ليتجاوز 5 ملايين نسمة في غضون عقدين من الزمن... والبلد الصغير لا يزال يتقطّع ويتقسّم ويضيق أكثر فأكثر، حتى بات نصف كل رعيل شاب يهاجر طلباً لوظيفة أو دخل أو ضمان للمستقبل... وبات الاقتصاد المحلي لا يوفّر إلا أقلّ من 3 آلاف و500 وظيفة نظامية سنوياً... وبات أكثر من نصف المقيمين يعانون من تدهور نوعية الحياة، وبالتالي يعانون من درجة من درجات الحرمان أو الفقر أو العوز، فيما النصف الثاني بات يرتكز في المحافظة على مستوى عيشه على مصادر دخل غير مستدامة ترتبط بمعظمها بالتدفقات المالية الآتية من الخارج، وهي تدفقات أسهمت حتى الآن بتمويل الإفراط في الاستهلاك ورفعت أسعار السلع والخدمات غير القابلة للتبادل الخارجي (ولا سيما العقار) وفرضت تعزيز الدور التوزيعي «الريعي» الذي تتولاه الدولة في ظل «محاصصة» مدروسة ومنظّمة تضمن مواصلة هذا الاتجاه إلى أبعد مدى زمني ممكن قبل «الانهيار» التام وعلى الله العوض... في الحصيلة الماثلة الآن، يمكن القول إنه فُرِّط بكل ثروة طبيعية أو بشرية أو ميزة كانت ستشكل قاعدة يُبنى عليها في تطوير الرأسمالية في لبنان... وكل ذلك كرمى لمصالح دنيئة لحفنة ضئيلة جدّاً من الريعيين (في الاقتصاد والسياسة) راكمت ثروات شخصية خيالية وأحكمت سيطرتها على كل شيء تقريباً... وهي ما انفكت تبيع الناس القلق من الحروب تارة ومن الانهيار تارة أخرى وتشيع في الوقت نفسه أغانيها الضاربة عن أن الاقتصاد في لبنان «حر» وأنه مفطور على الاستهلاك والهجرة والتبعية للتدفقات المالية الخارجية وأن الدولة «تاجر فاشل» وأن «التنظيم» رجس من أعمال «الشيوعية» الزائلة وأن منفعة مستثمر أو صاحب مال هي «المنفعة العامّة» بعينها، وما عدا ذلك هو عمل هدّام وشاذ يتناقض مع قوانين «الطبيعة» التي صنعها الله. لنترك ميشال شيحا جانباً، فحتى هو لن تشفع له أفكاره الأخرى التي يُفترض أن يحبّها نجيب ميقاتي وفؤاد السنيورة ونبيه بري ومحمد الصفدي وسليمان فرنجية وجبران باسيل ونقولا فتوش ونقولا نحاس ومروان خير الدين وفريج صابونجيان وفادي عبّود ونقولا شماس وجوزف طربيه ومحمد شقير ونعمت افرام وعدنان القصّار وريمون عودة وفؤاد الخازن ومحمد صالح ومحمد زيدان وميسرة سكر وجهاد العرب والبقية... فهؤلاء (إذا كانوا يقرأون طبعاً) سيتهمونه بالتأثّر بالأفكار «الاشتراكية» التي انتشرت في ذاك الحين في أوروبا، في ظل «الكينزية»، ولا سيما في ظل مشروع «مارشال» الضخم الذي ارتكز على دور حاسم للدولة في إعادة إعمار أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية... سيعتبرون أن هذه العبارات دسّها ميشال شيحا لمسايرة عصره من دون أن يقصد معناها فعلياً. لنعد قليلاً إلى دافوس. (بحسب ترجمة «السفير» لتقرير نشرته أخيراً صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية)... هذا المنتدى السنوي الذي تستضيفه المدينة الصغيرة صار «النادي» الأهم لتسويق «الليبرالية الجديدة» التي تسحر الكثير من اللبنانيين واللبنانيات... ففي دورته الأخيرة التي انعقدت منذ أيام، وقف الرئيس الآيسلندي، أولافور راغنر غريمسون، أمام أترابه من رؤساء دول ورؤساء مجالس إدارات شركات كبرى وصحافيون كثر يتسابقون للاختلاط مع أصحاب المال والتقط الصور معهم، وقال ما لا يريد أحد هنا أن يسمعه، قال: «إذا كانت البنوك يجب أن تعلن إفلاسها فلتعلنه... لماذا نعتبر أن المصارف هي قدّيسة كنائس الاقتصاد الحديث؟ ما يقال عن ضرورة أن تدفع الدولة لإنقاذ البنوك، فيما يتمتّع المصرفيون بأرباحهم وبنجاحهم، هو قول ظالم؛ إذ ليس من مسؤولية الناس أن يدفعوا لأصحاب المصارف ثمن فشلهم وتنعّمهم بالثروات. في الديموقراطيات المستنيرة لا يقبل الناس بهذا على المدى الطويل». وأضاف: «من الأشياء التي تعلّمناها بعد انهيار المصارف الآيسلندية، أن هذه المصارف مثلها مثل البريطانية أو الأميركية، أصبحت قلعة للتكنولوجيا العالية، توظف مهندسين ورياضيين وعلماء كمبيوتر. وعندما انهارت، بدأ يزدهر القطاع المبتكر لاقتصادنا، وهو قطاع المعلومات. في الواقع، آخر ثلاث سنوات حصل هذا القطاع على نتائج لم يحصل عليها من قبل». إذاً، الحكمة التي يحاول الرئيس الآيسلندي مناقشتها مع رفاقه تفيد بالآتي: «إذا أردتم أن يكون اقتصادكم تنافسياً في القطاع المبتكر في القرن الواحد والعشرين، فإنه لخيار سيئ أن يأخذ القطاع المالي المواهب الموجودة في قطاع المعلومات ليكونوا موظفين في الشؤون المالية». طبعاً، لم يتسابق الصحافيون في منتدى دافوس إلى تناقل هذه «الحكمة»، تماماً كحال الصحافيين هنا، يفضّلون التماهي مع مصالح «الأقوياء» و«المسيطرين»... آيسلندا «الرأسمالية» عاشقة الاقتصاد الحر، والتي يحكمها «ليبراليون» وتترسخ فيها مصالح الطبقة الاجتماعية المسيطرة، قررت ببساطة أن تترك المصارف لحالها وأن لا تعمد إلى تجنيد كل المقيمين فيها لخدمة أرباحها وديونها... قررّت هذه الدولة الصغيرة التي لا تتمتع بموارد طبيعية كبيرة وترتكز على السياحة والقطاع المصرفي والتدفقات الخارجية (بلغ حجم قطاعها المالي قبل أزمة عام 2008 نحو 10 مرات حجم اقتصادها بالمقارنة مع 3.5 مرات في لبنان) أن «تنظّم أمورها» بعيداً عن الارتهان لمصالح «اللوبي» الريعي فيها، فحققت في أقل من ثلاث سنوات نتائج كبيرة على صعيد إنعاش الاقتصاد وخلق الوظائف وتحسين مستوى المعيشة... ولهذا غاب ذكرها بنحو شبه تام في الإعلام لكي لا تتحول إلى نموذج يُحتذى أو دليل على زيف ادعاءات المستفيدين ممّا يُسمى اقتصاد «الكازينو». لقد وضعت آيسلندا أكبر المقرضين لديها تحت الحراسة، وقررت عدم توفير الحماية للمصارف التي تضخمت أصولها إلى 209 مليارات دولار... ولم تحصل كارثة، بل اتجهت أوضاعها نحو التحسّن على عكس أكثرية الدول الأخرى التي سارعت إلى ضخّ أموال دافعي الضرائب في شريان المصارف لدعم أرباحها والمحافظة على ثروات أصحابها، وهي لا تزال تئنّ تحت أزمة اقتصادية خانقة. وهو ما دفع الاقتصادي «الليبرالي» الفائز بجائزة نوبل، جوزيف ستيغليتز، إلى القول: «لقد فعلت آيسلندا الشيء الصحيح من طريق التأكد من استمرار عمل أنظمة الدفع في البلد، في الوقت الذي تحمل فيه الدائنون، لا دافعي الضرائب، خسائر البنوك. لكن من جهة أخرى، نجد أن ايرلندا قد عالجت الأمور بطرق خاطئة، وربما تعدّ أسوأ نموذج». مهلاً، أسوأ نموذج؟ في ايرلندا؟ ماذا لو تكرّم ستيغليتز بوصف النموذج اللبناني؟ ماذا كان سيقول؟ لقد قامت ايرلندا بضمان جمع الالتزامات المترتبة على مصارفهاعندما واجهت الإفلاس فعلاً، وضخّت مبالغ طائلة لدعم المصارف «المنهارة» فعلاً، نظراً إلى انكشافها التام على كارثة الاقتصاد العالمي وأسواقه المالية التي ستبقى ارتداداتها لفترة طويلة من الزمان، اختارت ايرلندا حماية المصالح الكامنة في نموذجها الحاضر، فيما اختارت ايسلندا حماية مستقبل البلاد عبر فرض تقاسم الألم، بحسب قول وزير الشؤون الاقتصادية الأسبق، آرني بول أرناسون... فأين يقع ما يحصل الآن في لبنان؟ يقوم «اللوبي الريعي» منذ فترة بحملة كاسحة في لبنان، تفصح أدبياته وسلوكه عن بعض أهدافها، وعلى رأسها: توطيد السيطرة على القرار وعدم التساهل مع مصادر التهديد التي ظهرت في السنوات الثلاث الأخيرة. لا يريد «اللوبي» أي دعسة «ناقصة وسط هذا الضباب الكثيف. يريد الآن، بأي شكل، أن يضمن أنه لن يضطر أبداً إلى تسديد حصّته من كلفة تصحيح النموذج الاقتصادي القائم، النموذج نفسه الذي نشأ هذا «اللوبي» في كنفه وترعرع. يريد أن ينقل إلى الناس هذه المرّة أيضاً كلفة «تصحيح» نموذجه هو. بمعنى أنه يريد أن يحافظ على حصّته من الأرباح والمنافع والمواقع على حساب المزيد من التراجع في مستوى عيش اللبنانيين المقيمين، أي على حساب المستقبل. لا يقتصر الأمر على التصدّي لأي محاولة ترمي إلى استهداف أرباح المضاربات المالية والعقارية بالنظام الضريبي (الحيادي أصلاً)، بل يتجاوز ذلك إلى تكريس إيرادات النظام الضريبي الحالي (والأدوات النقدية) لدعم هذه الأرباح تحديداً؛ إذ ليس مجرد صدفة أن يقرر مصرف لبنان ضخ مبالغ طائلة من التسليفات المدعومة في المصارف لدعم أرباحها (وأرباح تجّار الشقق بعد تخصيص 60% من هذه التسليفات للقروض السكنية) في الوقت الذي لا تترك الحكومة أي فرصة في محاولتها إمرار زيادة معدّل الضريبة على القيمة المضافة من 10% إلى 12% وتحميل الاتصالات المزيد من الأعباء الضريبية وشبه الضريبية (أكثر من نصف مجمل إيرادات الخزينة العامّة تأتي من هذين المصدرين إلى جانب الرسوم الجمركية)... بمعنى أكثر وضوحاً، تحاول الحكومة الآن أن تلقي على كاهل اللبنانيين عبئاً ضريبياً إضافياً لا يقل عن 1000 مليار ليرة سنوياً بحجّة تمويل كلفة تصحيح الأجور ومواجهة تدهور أوضاع الاقتصاد اللبناني من جراء التطورات الإقليمية، فيما قرر مصرف لبنان، بموجب التعميم الوسيط رقم 363 بتاريخ 14/1/2013، أن يقرض المصارف 2200 مليار ليرة بفائدة 1% لتعيد إقراضها للزبائن بفائدة تصل إلى 5.5%! أي إن المصارف ستربح من هذه العملية ما لا يقل عن 65 مليون دولار تضاف إلى أرباحها السنوية التي بلغت في العام الماضي أكثر من 1576 مليون دولار! لكن القصّة لا تقف عند هذا الحد؛ فمصرف لبنان يستخدم في عمليته الجديدة جزءاً من المبالغ التي سبق أن امتصها من المصارف نفسها على مدى السنوات الماضية لتمكينها من التعامل مع فائض سيولتها المتراكم من دون أن تضطر إلى خفض أرباحها أو تكبّد خسائر ظرفية أو بذل جهود، ولو بسيطة، لأداء دورها كمصارف... فقد جمع مصرف لبنان حتى نهاية العام الماضي نحو 23 ألف مليار ليرة من السيولة الفائضة لدى المصارف المحلية، وذلك عبر إصدار شهادات إيداع بفائدة تبلغ نحو 9%، أي بكلفة تصل إلى 1370 مليون دولار تحمّلها اللبنانيون جميعاً عبر النظام الضريبي، بهدف وحيد هو دعم النموذج الاقتصادي الذي يُعَدّ طارداً ومهمّشاً لأكثرية اللبنانيين واللبنانيات... لا تشمل هذه الكلفة مبالغ الدعم التي تتحمّلها الخزينة العامّة مباشرة من خلال إصدار سندات الخزينة للهدف نفسه، وهو ما راكم مديونية عامّة تقدّر فعلياً بنحو 70 مليار دولار، وترتب كلفة مباشرة لخدمتها (المصرّح عنها في الموازنة) تبلغ نحو 6 آلاف مليار ليرة سنوياً! ولا تشمل هذه الكلفة نحو 1800 مليار ليرة، اضطر المقيمون في لبنان إلى تحمّلها لتغطية ما سمّي زوراً «المصارف المتعثّرة»، ومنها مصارف لا تزال قائمة! هذه مجرد أمثلة على ما يحصل الآن في لبنان، البلد الذي يضيق بأهله شيئاً فشيئاً، ولا تزال قواه السياسية النافذة رهينة مصالح «اللوبي» الريعي التي يسيطر عليها ويأخذها إلى التضحية حتى آخر لبناني يستطيع العيش هنا بكرامة أو بنزاهة أو بحرّية. ________________________________________ «فدا إجر» المصارف خلافاً لكل التهويل الذي يمارسه «اللوبي» الريعي، حققت المصارف نتائج باهرة في العام الماضي، تتناقض مع تبريرات دعمها. فبحسب الاحصاءات الصادرة عن مصرف لبنان، ارتفعت الموجودات والاصول المصرفية (المصارف التجارية فقط) من 140.5 مليار دولار في نهاية عام 2011 الى 151.8 مليار دولار. وبلغت قيمة الودائع منها نحو 124.9 مليار دولار، بزيادة 9.3 مليارات دولار! لماذا يجب دعم ارباح المصارف اذا؟ ولماذا لا تترك المصارف في ظل هذا الوضع الناشئ لتتحمل مسؤولية توظيف ودائعها والمساهمة في تحقيق النمو الاقتصادي، الذي لها مصلحة اكيدة فيه (بمعزل عن نقاش نوعيته الان)؟ ولماذا تحرّكت الحكومة وسلطتها النقدية بسرعة لاعفاء المصارف من المسؤولية ومن حصّتها من تحمّل الاعباء؟ لا شك ان الاجوبة معقّدة وشائكة، لكن يكفي الاسترشاد بمؤشرين بالغي الاهمية: الاول- أن اكثر من نصف الودائع المتراكمة لدى المصارف تتركّز في اقل من 0.8% من الحسابات المصرفية، اي إن اكثر من 62 مليار دولار يستأثر بها اقل من 500 مودع فعلياً، وبالتالي يستفيد هؤلاء من ريع سنوي على فوائد ودائعهم لا تقل قيمته عن 3.5 مليارات دولار، واسهل طريقة واضمنها لاستمرار هذا الريع ونموّه تكمن في ابقاء الاولوية المطلقة لخدمة الدين العام وتحمّل كلفة سياسة التثبيت النقدي. الثاني- ان لبنان بات مرهونا بالكامل لاستمرار تدفقات المال من الخارج عبر تحويلات المهاجرين او عبر تدفق الودائع وتراكم الارباح الريعية التي تغذّيها المضاربات العقارية والاستهلاك المفرط والمال السياسي. هذان المؤشران لا يعنيان سوى ان اصحاب القرار يصرون على ابقاء رقاب اللبنانيين تحت سيف المصارف وقدرتها على زيادة ودائعها وارباحها لكي يجري استخدامها في دورة ريعية بامتياز تؤدي فيها الدولة دورا مشوّها وخطيرا جدا. ________________________________________ نتائج النموذج الاقتصادي ازدادت درجة اعتماد لبنان على التدفقات النقدية الخارجية، وازدادت بالتالي درجة تخصصه في خدمة اقتصاد إقليمي ريعي بما يسمح بإدارة هذه التدفقات (قدّر قيمتها البنك الدولي بنحو 147 مليار دولار بين عامي 1993 و2010، أي ما يوازي تقريباً كل حزمة البرامج التي نُفذت في أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية في إطار مشروع «مارشال»، المقدّرة بنحو 170 مليار دولار بأسعار عام 2005)، مع ما رتّبه ذلك من مديونية مرتفعة جدّاً (تقدّر بنحو 70 مليار دولار فعلياً مع الديون على المؤسسات العامّة والمستحقات على الخزينة العامة) واستهلاك مفرط (سجّل العجز التجاري للبنان نحو 153 مليار دولار بين عامي 1993 و2012) ومضاربات عقارية موجعة للغاية (ارتفعت أسعار الأراضي مئات المرات في العقدين الماضيين) ونزف بشري متدفق سببته الهجرة الواسعة، ولا سيما من العمالة الماهرة والمبدعين وأصحاب الابتكار (20 ألف شاب وشابة يهاجرون سنوياً)... كل ذلك أدّى إلى إفقار فئات واسعة من اللبنانيين وحرمانهم فرص العمل والحماية الاجتماعية والسكن، إلا أنه ولّد ريوعاً ضخمة تجسّدت تراكماً سريعاً في ثروة القلّة... هذا بعض ما يواجهه اللبنانيون اليوم بعد عقدين من تضييع فرصة إعادة الإعمار بعد الحرب. هذا النموذج الاقتصادي الريعي ما كان ممكناً أن ينشأ ويستمر لولا السيطرة التامّة على الشأن العام واستغلال تحلل الدولة وإخضاع الناس لقلق الحروب (الأهلية منها والخارجية) وقلق الانهيار (المالي أو النقدي أو الاقتصادي)... وتعطيل آليات الانتظام العام كلياً لمصلحة بناء إقطاعيات محصّنة بحجّة «المحاصصة الطائفية»، ليس في إدارة الدولة ومؤسساتها فقط، بل في الأسواق والمشاريع والامتيازات أيضاً؛ إذ يكفي ترداد أن لبنان الذي يتغنّى ليل نهار بتبنّيه «الاقتصاد الحر» يعاني فعلياً من درجة احتكار مرتفعة جدّاً، وبكل المقاييس. اقتصاد العدد ١٩٢٨ الاثنين ١١ شباط