موسى فريجي السفير 11-1-2014
مع أن الكتاب يقرأ من عنوانه، إنما التطرق إلى بعض التفاصيل ضروري للدفاع عن هذه النظرية. منذ 1990 وحتى يومنا هذا، ساد الاعتقاد لدى الحكومات المتعاقبة، وتحديداً رؤساء الوزارات ووزارء المالية والاقتصاد، بأن هنالك مسلمات يجب التشبث بها، وهي: 1ــ سياسة الانفتاح المفرط إنما هي سياسة تشجع الاستثمار. 2 ــ لا بد للبنان من أن ينضم إلى منظمة التجارة العالمية التابعة للأمم المتحدة، وإلا سوف يتأثر مستوى صادراته. ومن أجل ذلك على لبنان أن يصدر القوانين المطلوبة، وعلى رأسها تخفيض مستوى الجمارك على مستورداته إلى معّدل لا يزيد عن 5 في المئة. 3 ــ لبنان بلد سياحي وخدماتي وأكلاف الإنتاج لديه مرتفعة لذلك لا بأس بالتضحية بالقطاعات الإنتاجية. 4 ــ هجرة اللبنانيين هي مسألة تعود إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى، ويجب النظر إليها على أنها نعمة، لكونها تؤدى إلى تحويلات من المهاجرين إلى ذويهم من المقيمين، وتعوض نوعاً ما، العجز التجاري الحاصل دائماً. 5 ــ إن توقيع اتفاقات التبادل التجاري الحر مع دول أخرى، وانضمام لبنان لاتفاقية المنطقة الحرة العربية، في ظل جامعة الدول العربية، إنما يفتح الباب للمصدرين اللبنانيين أمام 350 مليون نسمة في الوطن العربي، وما يماثله عدداً ببقاع الدنيا. فما هو واقع الحال في ظل هذه السياسة؟ أ- لم تهدأ الساحة اللبنانية من اضطرابات وخلافات سياسية، أدّت إلى زعزعة القطاع السياحي وتراجعه. ب- أقفلت صناعات لبنانية عدة، كالملابس والأحذية والأدوية والخزفية، وتراجعت صناعة الأغذية. ج- تحولت مؤسسة «إيدل»، التي كان يعوّل عليها تسهيل إجراءات الاستثمار وتحفيزها، إلى مجرّد مكتب لمراقبة الصادرات الزراعية المدعومة. د- تراجعت الزراعات كافة تقريباً، ولم يبق منها إلا التي تتمتع بشيء من الحماية الجمركية، كاللحم ... الدواجن والألبان والأسماك، وتلك التي تدعمها الدولة دعماً مادياً مباشراً، كالقمح والشمندر السكرّي. هـ - صمدت صناعة الأسمنت المحلّية بسبب منع استيراده. كما صمد طيران الشرق الأوسط بسبب منحة ميزة تجديد أسعار تذاكر السفر على شركات الطيران غير اللبنانية وبسبب عدم تمرير اتفاقية الأجواء المفتوحة. و- نجح القطاع المصرفي نجاحاً كبيراً، لأن معظم دخله أتى ويأتي من سندات الخزينة، والدولة تقوم بدفع الفوائد المرتفعة نسبياً للبنوك. إذن يعزى نجاح القطاع المصرفي إلى دفع الدولة فوائد مرتفعة، مقارنة مع بنوك العالم، وبالتالي قدرتها على إستقطاب أموال المواطنين في دول التعاون الخليجي، وتوظيف هذه الأموال في خزينة الدولة والبلدان الإفريقية. لكن نجاح هذه البنوك جاء على حساب الدين العام، الذي يتراكم يوماً بعد يوم، إلى أن تعدى الستين مليار دولار، أي ما يصيب كل مواطن لبناني بأكثر من 10000 دولار، عليه سدادها بشكل أو بآخر. ز- ازدادت الهجرة الدائمة بصورة مخيفة، وباع المهاجرون أراضيهم، فعلت الأصوات محذرة من دون طائل. كما هجر 75 في المئة من متخرجي الجامعات والمعاهد إلى الدول العربية وغيرها، بسبب ندرة فرص العمل في لبنان. ح- توقفت عجلة تقدم لبنان من بلد في طور النمو (developing) إلى بلد نام (developed) والخوف أن يتراجع تقييمه إلى بلد دون النامي (underdeveloped). ط- ازدادت التعديات والسرقات وتفشى الفساد والرشوة، كل ذلك بسبب قلة فرص العمل أو بسبب تدني الأجور، مقارنة مع ازدياد أكلاف المعيشة. ي- انبرى الشباب للانجرار وراء الحركات السياسية ذات الأجندات الأجنبية، بدل أن يكونوا عاملين منتجين يبغون الاستقرار والعيش الكريم. ك- تزدادت حالات الطلاق أو الانفصال والشذوذ والتفكك العائلي إلى درجات خطيرة، وكلها بسبب القلة وخاصة قلة فرص العمل في لبنان. فما هو الحل ؟ الحلّ يكمن في توفير فرص العمل. وهذه يمكن أن تحصل نتيجة الاستثمار في مشاريع إنتاجية، وهي بدورها لن تحصل بغياب الحماية الفاعلة، وخاصة الحماية الجمركية التي تؤدي، إن فعَّلت، إلى تحفيز الاستثمار في القطاعات الإنتاجية، واستبدال قدر يسير من المستوردات بالإنتاج المحلي. هنالك رساميل كبيرة يملكها لبنانيون، هاجروا ونجحوا في بلدان الاغتراب، لكن حنينهم للعودة بقي. إنما عودتهم مع أموالهم لا يمكن أن تحصل إلاّ إذا توفرت فرص الاستثمار. وهذه الفرص هي التي سوف تستوعب طالبي العمل. لقد غاب عن المسؤولين أن أية سياسة اقتصادية، إنما يجب أن تخدم المواطنين اللبنانيين لأي فئة انتموا وبغض النظر عن عددهم. وخدمة المواطنين تأتي قبل خدمة الدول الأخرى التي تطالب بفتح الأسواق لمنتجاتها. غاب عن المسؤولين أيضاً أن معظم الدول التي تطالب بفتح الأسواق لها إنما تعتمد على سياسة الدعم المباشر ودعم التصدير، الأمر الذي يخفّض من قيمة السلع المنوي تصديرها، وبالتالي يهدّد الإنتاج المحليّ غير المدعوم في لبنان. غاب عن المسؤولين أن القوانين المطلوب وضعها في لبنان، توطئة لانضمام لبنان لاتفاقية التجارة العالمية إنما تخدم المنتجات المستوردة وتحارب الإنتاج المحلي بصورة غير مباشرة، كقانون حماية المستهلك وقانون حماية الإنتاج الوطني وقانون حماية الملكية الفكرية. غاب عن المسؤولين استغلال بعض الدول العربية لاتفاقية المنطقة العربية الحرة، والتي ألغت كل الرسوم الجمركية بين الدول العربية للمنتجات ذات المنشأ العربي (أي حدّ أدنى 40 في المئة من مدخلات المنتجات)، فأخذت هذه الدول تصدر منتجات مستوردة كلياً على أن منشأها هو البلد العربي المصدّر بعد تغيير تغليفها. لم يتضمّن أي بيان وزاري منذ 1990 حتى الآن أية إشارة إلى كيفية معالجة الوضع الاقتصادي المأزوم في لبنان سوى بكلمات عامة لا معنى لها. قبلت كل الحكومات المتعاقبة منذ 1990 حتى الآن سياسة الحماية لعديد من القطاعات سوى القطاعات الإنتاجية. فمهنة المحاماة والهندسة والصيدلة والطبابة كلها محمّية. وقبلت هذه الحكومات سياسة الاحتكار كصناعة الإسمنت وسياسة حكر قيمة تذاكر السفر من لبنان وإليه على طيران الشرق الأوسط وصناعة الكابلات الكهربائية وغيرها. من المؤسف أن المسؤولين عن الشأن الاقتصادي في لبنان هم مهووسون بالتبعية لأنهم لا يملكون القدرة على المبادرة أوالتحليل بل يستسهلون التبعية والاعتقاد على أن كل فرنجي برنجي وكفى المؤمنين شر القتال. إن جهل كل رؤساء الوزارات ووزارء المالية والاقتصاد الذين تعاقبوا على الحكم منذ 1990 في الشأن الاقتصادي أوصل اللبنانيين إلى بيع أراضيهم وإلى الهجرة.
المهندس موسى فريجي
خبير في الاقتصاد الزراعي
|