مقالات صحفية مختارة > فضيحة الهدر الجمركي: مليار دولار سنوياً للمنتفعين
مافيات «ائتلافية».. وشركاء وجواسيس في الإدارة!
عماد مرمل االسفير 12-2-2015
لا يوحي المكتب الأنيق لوزير المال علي حسن خليل، في وسط بيروت، بانه يخبئ في طياته كمّا من الفضائح، يمتد من المرفأ الى المعابر الحدودية مع سوريا مرورا بالمطار. تحت الطاولة المكتظة بالاوراق، يقبع صندوق متوسط الحجم، لو نطق لتهاوت أسماء رنانة واصفرت وجوه معروفة. يحوي الصندوق ملفات توثق بالارقام والوقائع مخالفات وارتكابات مالية، عابرة للطوائف والمذاهب والاحزاب والاجهزة الرسمية، بلغت معها قيمة الخسائر المترتبة على الخزينة نتيجة الفساد الجمركي حصرا 700 مليون دولار سنويا بالحد أدنى، كما يؤكد خليل لـ «السفير»، فيما ترجح تقديرات غير رسمية وصول الرقم الى حدود مليار و200 مليون دولار! فوق مساحة الفساد هذه، يبدو «العيش المشترك» حقيقيا، بعدما تبين ان شبكات التهريب والتزوير نجحت في «صهر» أصحاب الانتماءات الدينية والسياسية المختلفة، الذين يتوزعون الادوار والاختصاصات والمرافئ والمكاسب والنفوذ. وعليه، تضم مافيات التهريب وتزوير البيانات الجمركية في صفوفها سماسرة وتجارا ومخلصين جمركيين، محسوبين سياسيا على قوى متصارعة، لكنهم يتعاونون ويتكاملون في «السوق» ضمن شبكات منظمة، تدار بطريقة محكمة. وقد تبين بعد التدقيق ان هناك أربع مجموعات مركزية و «مختلطة» تدير عمليات التحايل الجمركي في مرفأ بيروت (التلاعب بالرسوم والبيانات وتمرير البضائع عبر الخط الاخضر «المتسامح»..) فيما تتفرغ مجموعات أخرى للتهريب البري من سوريا واليها عن طريق معابر تجمع أيضا أنصار النظام السوري وخصومه! أما المطار، فله شبكاته المتخصصة التي تتولى تمرير بضائع غير مصرح عنها في البيانات الجمركية المزورة، وبالتالي غير خاضعة للكشف الهادف الى التثبت من سلامتها وجودتها. وفي المعلومات ان هناك خطين ناشطين للتهريب عبر المطار، ينطلقان من الهند والصين ويمران في دبي، كمحطة انتقالية، وصولا الى لبنان. والخطير، ان من بين البضائع المتسربة خلافا للقانون أدوية ومتممات غذائية تُستورد بشكل اساسي من الهند، في حين تُعد الصين المصدر الاساس لاستيراد الالبسة والهواتف. ولهذه المافيات «شركاء» في الادارات الرسمية يتوزعون المهام وفق تكوين «هرمي» يبدأ من التغطية السياسية والمستوى الاعلى في الادارة ثم يتدرج ليشمل موظفين في الرتبتين الوسطى والعادية، انتهاء ببعض عناصر ومسؤولي الاجهزة الرسمية في المرافئ. ولا يتوقف «الاختراق» عند هذا الحد، إذ يُقر خليل بان مافيات التهريب والتزوير تملك مفاتيح وجواسيس داخل الجمارك، تسمح لها بان تكون أقوى من شبكات الرقابة الرسمية، وتاليا بأن تعطل مفعولها وتأثيرها. والمفارقة في هذا المجال، ان معظم المعلومات التي يحصل عليها الوزير حول المخالفات والارتكابات لا تأتيه من الاجهزة الرقابية المختصة وإنما من «متضررين»، دفعوا ثمن صفقات المافيا او.. «انشقوا» عنها لأسباب شخصية، وهذا ما يفسر وجود رسائل لهؤلاء على مكتب خليل، تتضمن «روايات بوليسية» وأخطاء لغوية فادحة. والمفارقة الاخرى التي تعكس حجم «الدفرسوار» الناشئ في قلب الادارة الرسمية، تسريب أخبار الى «أولياء الامر» عن نية الوزير تنفيذ «كبسات» معينة في المطار او المرفأ، قبل وقت قصير من حدوثها، ما دفعه الى تغيير تكتيكاته. وفي إطار «التمويه»، نفذ خليل خلال الاسابيع الماضية 11 «كبسة» غير معلنة، كان آخرها السبت الماضي في مطار بيروت، حيث وضع يده مرة أخرى على بيانات جمركية مزورة، تصرّح عن بضائع مغايرة لتلك التي دخلت فعلا الى السوق، سواء من حيث النوعية او السعر. ومن الأمثلة الصارخة على التواطؤ بين بعض التجار والموظفين، فضيحة إخراج 19 طن قريدس فاسدة، قبل اشهر، من المستودع الذي كانت تُحفظ فيه، ثم بيعها، برغم ان الفحوصات المخبرية أكدت عدم مطابقتها للمواصفات، وبرغم ان باب المستودع كان قد خُتم بالرصاص. ويؤكد خليل ان أحدا ما فتح باب المستودع وسمح بإخراج البضاعة خلافا للقواعد الاخلاقية والقانونية. لكن القصة لم تنته هنا، لان «بطلها»، صاحب البضاعة الفاسدة، طلب لاحقا ومن دون أي خجل تخفيض الغرامة المالية بحقه والتي لا تتجاوز العشرين مليون ليرة، في حين ان المحاسبة يجب ان تكون أصلا أقسى بكثير. وامام هذا الواقع المزري، بادر وزير المال الى إجراء تشكيلات في جسم الجمارك، هي الاوسع من نوعها، طالت 36 مراقبا و34 ضابطا و845 خفيرا ورتيبا، موضحا انه مصمم على تكرار التشكيلات دوريا بمعدل مرة كل شهرين ونصف شهر تقريبا، «لان بعض المراكز والدوائر باتت «محميات» للموظفين الذين يشغلونها، ما أدى الى استشراء الفساد»، كما كشف عن وجود 17 إحالة من قبله الى القضاء. وأكد خليل انه يسعى في الوقت الحاضر الى إرباك المتورطين في المافيات الجمركية وعدم منحهم فرصة لالتقاط الانفاس، وصولا الى ضبط عمليات التهريب وتخفيف الهدر المالي، وذلك في انتظار نضوج الحلول المتوسطة والطويلة المدى.