كتب سيمون كشر في جريدة الاخبار بتاريخ 18-5-2012 كثر الحديث في الفترة الأخيرة عن الحاجة الملحة إلى تطبيق اللامركزية الإدارية الموسعة كسبيل خلاص للوصول إلى الإنماء المتوازن اقتصادياً واجتماعياً. تحدث بها كثيراً وزير الداخلية والبلديات الحالي وسلفه، ولم يوفر رئيس الجمهورية مناسبة إلا شدد فيها على وجوب تطبيقها، ويطالب بها أسبوعياً أكثر من نائب ممثل للأمة. كلام جميل في السياسة وسهل جداً في عالم «الأكاديميا»، انطلاقاً من جاذبيته كونه يمثّل مادة دسمة، وخصوصاً أن تحقيق اللامركزية الإدارية جزء لا يتجزأ من اتفاق الطائف، فهذه النقطة بالذات تتيح للجميع تكرار المطالبة بهذا المشروع. في المبدأ، اللامركزية الإدارية الموسعة تهدف إلى تأمين «تساوي» في الإنماء المتوازن بين جميع المناطق اللبنانية، وهناك إجماع على أنها تصلح تطبيقياً في البلدان ذات الأنظمة البرلمانية، ونجحت في البلدان النامية والبلدان التي خرجت من مسار حروب أهلية طويلة، بحسب ما يقول البعض، لا بل إن هناك من يجزم بأن تطبيقها سيخفف من حدة الفقر، وسيزيد نسبة المحاسبة والتطوير البلدي والحكم المحلي والإنماء الاقتصادي والوطني المتوازن... لا تنتهي الأقاويل عند أهل السياسة، لكنها لا تتعدى التنظير السطحي! إن موضوع اللامركزية موضوع تقني صرف، لا يمكن سطحياً، ولا يمكن لأهل السياسة أن يتقنوه ملياً، مع كل ما بحوزتهم من ملفات عالقة، فالتطرق الى كل ميزة من الميزات المذكوره أعلاه يحتاج الى أطروحات كاملة، بعيداً عن التسويق السياسي والتركيز على تعداد الحسنات والمنافع، إذ إن صياغة مشروع لبناني للامركزية الادارية تحتاج الى بناء أساساته من خلال عمل علمي ومنهجي على النحو الآتي: بحث معمق يبدأ بسؤال أساسي جداً عن مدى حاجة لبنان إلى هذا المشروع، وعن كيفية تطبيقه، وعلى أي مستوى؟ هنا يكمن مدخل البحث. ثم يأتي النظر إلى التغييرات المطروحة من خلال تعداد المشاكل في النظام الحالي. وقبل الشروع في تكهن النتائج المرجوة من هذا المشروع، لا بد من التطلع إلى بعض جوانب أساساته من أجل ضمان حسن سير التطبيق فيما بعد. كيف يمكن أي شخص الادعاء بأن اللامركزية الإدارية الموسعة ستنجح لا محال قبل دراسة جدوى تطبيقها إدارياً ومالياً؟ وقبل دراسة قابليتها للتنفيذ؟ فقبل تكهن النتائج المتوقعة من التنفيذ، يجب الدخول في دراسة مقارنة مع باقي البلدان التي طبقت هذا النظام، ويجب قراءة المنتج العلمي للخبير في هذا المجال Dennis Rondinelli، فهو كتب كثيراً عن هذا الموضوع، وفي كيفية تطبيقه، وخصوصاً في البلدان النامية. وبعد ذلك يجب التطرق إلى المتغيرات (variables) من ناحية الخدمات العامة، التطور والاستدامة، والتطرق إلى الافتراضات (assumptions)، والأهم من كل ذلك هو التطرق إلى الأدلة (evidences) التي من خلالها يمكن استنتاج إمكانات النجاح من خلال دراسات إحصائية ودراسات جدوى. قد يعتقد البعض أن الحاجة الوطنية والأسباب الموجبة لتطبيق اللامركزية الإدارية معروفة من الجميع، لكن ماذا عن المخاطر والحواجز؟ يجب التفكير في هذين الجانبين وما يمكن أن ينتج عنهما. أما التحديات، فهي أيضاً كثيرة، فالتحدي الأول والأصعب يكمن في إمكان خلق ستة وعشرين مجلس قضاء في ظل العجز والإفلاس الحاليين، والتباين في مستوى وأوضاع كل قضاء. اللامركزية الإدارية الموسعة، على عكس ما يتمنى الكثيرون، ليست سهلة التطبيق، وليس هناك من دليل موحد يمكن اتباع إرشاداته للوصول إلى خاتمة سعيدة. لذلك وجب على الجهة التي تخطط لها أن تعي جيداً التطور البشري على الصعيد الوطني، الذي لا يزال حتى الآن دون المستوى المطلوب، والشروع في تحسينه دون نسيان المميزات الخاصة للبنان كالانقسامات الطائفية والسياسية، الدين العام، والكثير من المشاكل التي إذا ما وجدت لها حلول لا يمكن الإقلاع بها كمشروع وطني. لا بد أن أقر بأنني أميل ميلاً فاضحاً إلى مشروع اللامركزية الإدارية الموسعة، الا أن ذلك لا يمنع من التذكير بأن هناك ثلاثة أعمدة يتكون منها المثلث الأساسي كشرط مسبق للدخول في مشروع اللامركزية الإدارية، ولا يظنّن أحد، من السياسيين المنظرين وغيرهم، أنه يمكن مجرد التفكير في تطبيق هذا المشروع الوطني من دون مؤسسة وسيط الجمهورية، ومن دون إنشاء وزارة تعنى بالشؤون اللامركزية، والأهم من هذين الطرحين، هو سلطة مركزية قوية، إذ لا يمكن تصور لامركزية إدارية قوية من دون سلطة مركزية قوية، قادرة على الوقوف على مسافة واحدة من الجميع. هذا هو الحد الأدنى من المتطلبات ومن الأساسات، فهل هو متوافر؟ وفي الحالة اللبنانية هناك شروط اضافية من المهم اتباعها للسير في هذا المشروع الوطني، أهمها: الاقتناع الكامل من كل الجهات والأحزاب والتيارات السياسية، كوننا محكومين بالتوافق، بالسير في المشروع كوسيلة لتنفيذ الإنماء المتوازن في لبنان. يأتي هذا تماشياً مع الفصل الكامل للسياسة عن الإدارة (politics-administration dichotomy)، والأهم من كل ذلك هو العمل على تخطي النزاعات والانقسامات الطائفية، هذا من ناحية القطاع العام. أما من ناحية القطاع الخاص، فالمطلوب إصلاح مالي على صعيد المصارف التجارية، حيث توزع اقتصادها وخدماتها على جميع المناطق اللبنانية. بغض النظر عن حسن نية الجميع، وبغض النظر عن الطموحات الكبيرة لدى مختلف الأطراف السياسية، فالواقعية تفرض نفسها هنا: البداية تكون في إصلاح السلطة المركزية وتدعيم الأعمدة الثلاثة قبل الانطلاق في تلك الرحلة المشوّقة والصعبة في آن واحد، فالجميع يجب أن يكون حريصاً على صعود السلم درجة درجة، لئلا ينزلق و«يدهورنا» جميعاً والوطن معنا. اقتصاد العدد ١٧١٠ الجمعة ١٨ أيار ٢٠١٢