مقالات صحفية مختارة > انظر ما فعلته الخصخصة ببلادي»
الشراكة مع القطاع الخاص: حذار الكارثة المقبلة
كتب حسن شقراني في جريدة الاخبار بتاريخ 24-5-2012
ليس الاسم غريباً أبداً ولا حتّى الإجراء المتّخذ. ففي عام 1989 فعلت الحكومة البريطانية المحافظة برئاسة مارغريت تاتشر كلّ ما في وسعها «لخلق نشاط تجاري ناجح» وخصخصة قطاع المياه في البلاد: شُطبت الديون، ابتُكرت المحفّزات الضريبية وحتّى سُحبت أموال من صندوق التقاعد للموظفين الذين نُقلوا إلى وكالة الشؤون البيئية... كلّ ذلك «لبيع القطاع بسعر زهيد لضمان أنّ الشركات القادمة تستطيع تحقيق معدّل جيّد للعائد على الاستثمار». هكذا تصف أستاذة المحاسبة العامّة في جامعة «مانشستر» في المملكة المتحدة، جان شاوول في تقرير طويل عن إحدى مصائب الحقبة التاتشرية المظلمة. واستخدام تعبير المصيبة ملائم تماماً نظراً لأنّ أي تسليع تجاري بهدف تحقيق الربح الأقصى في المياه ــ التي تُعدّ المورد الأساسي للحياة ــ هو كارثة فعلية. وقد تحقّق الجانب المباشر من تلك الكارثة مع ارتفاع معدّل الأسعار للمستهلكين بنسبة 50% خلال السنوات الأربع الأولى من الخصخصة. أمّا الجانب غير المباشر فقد شعر به المستهلكون تدريجاً مع ازدياد نسب تسرّب المياه لنقص الصيانة. وفي عام 2001، وصفت لجنة برلمانية خاصّة الوضع بالتالي: «ليس لدى الشركات (التي تتولى إدارة القطاع) المحفّزات الكافية لتحسين الفعالية في قطاع المياه»... لا بل أكثر من ذلك، فخلال الجفاف الذي ضرب البلاد عام 1995 ظهرت الشركات ضعيفة جداً في الحفاظ على مستوى ملائم من الخدمة! وفي دردشة مع «الأخبار» أخيراً، عبّر الصحافي المخضرم في الجريدة البريطانية العريقة «The Guardian»، دايفيد غاو، باختصار مفيد عن هذا الأمر: هذا الموسم كان غنياً جداً بالأمطار، ورغم ذلك لم يكن هناك قطرة واحدة في خرطوم المياه في حديقتي ليلة أمس! انظر ما فعلته خصخصة قطاع المياه في بلادي؛ الآن معدّل هدر المياه يصل إلى 60%، لأن الشركات لا تملك الحافز التجاري لتحسين الخدمة. الحديث يطول كثيراً عن ويلات الخصخصة الفاجرة في البلدان الصناعية والنامية على حدّ سواء. فإذا كانت الأمور معرّضة للوصول إلى هذا المستوى من السوء في بلد مثل بريطانيا حيث حكم المؤسسات والديموقراطية العريقة، فكيف يكون الأمر عليه في البلدان النامية التي لا تنقصها فقط البنى التحتية بل البنى المؤسساتية والثقافية العامّة ــ ولبنان مثال بارز؟ للأسف، سؤال كهذا لا يُطرح في المؤتمرات وحلقات النقاش الخاصّة بالشراكة مع القطاع الخاص في لبنان (وهي تسمية أكثر تهذيباً للخصخصة)، وآخرها «منتدى الشراكة مع القطاع الخاص» الذي بحث على مدى اليومين الماضيين «وضع السوق والاحتياجات بعد الربيع العربي»، بل على العكس تماماً، لا تتم الدعوة الى هذا النوع من المنتديات سوى المطروبين بالخصخصة، ويكون الأمر عبارة عن حلقات من التغنّي المستمرّ بخيرات الخصخصة وأهميتها في بلد مثل لبنان «حيث لا تجرؤ الدولة»(!). فالأمين العام للمجلس الأعلى للخصخصة (وهي تسمية طويلة جداً لمنصب لا دور فعلياً له حتّى الآن)، زياد حايك، يؤكّد التالي: «الشراكة مع القطاع العام وصلت إلى (مجال) الفضاء في العالم... ونحن غير قادرين حتى على اشراك القطاع الخاص في مشاريع مرائب تحت الأرض». ويُشير إلى أنّ «الوضع المثالي الذي نهدف إليه وهو التحرّر الكامل من الضغوط السياسية» مشدّداً على أنّ الخطوة الأولى للانطلاق في شراكة رائدة هو إقرار قانون الشراكة مع القطاع الخاص. حسناً، يُصيب زياد حايك في قضية الضغوط نظراً لتشعّب المصالح الاقتصادية والسياسية لتصل إلى مستوى مدمّر في البلاد. لكن من يخدع بالقول ان لبنان لم يمارس الخصخصة والشراكة، سوكلين نموذجاً، ومحطّة الحاويات في مرفأ بيروت، وكذلك مقدّمو الخدمات في الكهرباء، وما يُسمى التعليم الخاص المجاني... وسوى ذلك من مشاريع لم تحظ بأي رضى سوى من اولئك المنتفعين المباشرين وغير المباشرين، فالأمر تحوّل إلى حفلة أرباح وتعظيم للأرباح من دون أي اعتبار للمصلحة العامة (دعونا لا ننسى مثال بريطانيا). وهناك مسألة أخرى، فمعايير تقويم نجاح الخصخصة ليست دوماً المعايير الصحيحة. وأحد الأمثلة على ذلك ــ وهو مثالٌ قُدّم في المنتدى ــ تجربة الخصخصة في مرفأ بيروت. فمنذ تسليم القيادة لكونسورتيوم إدارة الحاويات في المرفأ (BCTC) في عام 2004، نمت إدارة الحاويات النمطية (Containers) من 300 ألف حاوية سنوياً إلى مليون حاوية. لكن كلفة هذا الأمر هي 40% من إيرادات المرفأ تذهب للشركة المشغّلة، اكتظاظ هائل في المرفأ يُرتّب أكلافاً غير محسوبة، ممارسات مثيرة للجدل في تفضيل شركات الشحن والقبول بتخزين المستوعبات الفارغة على حرم المرفأ بكلفة زهيدة جداً... إنّها المعايير إذاً التي يضغط القطاع الخاص وممثلوه لدفعها صوب أساليب السوق فيما المبدأ الأخلاقي والتنموي يجب أن يُرسّخها في مجال الصالح العام. وهذا الصراع هو ما يجب أن يكون قائماً حالياً في هذه المرحلة من البلبلة الإقليمية والحديث الدولي عن تحديات التنمية. وبحسب المعلومات المتوفّرة فإنّ مجلس الوزراء سيُرسل قريباً قانون الشراكة الشهير. مع بدء العمل بهذا التشريع الجديد يجب أن تُفتح الأعين جيداً لتكون هناك رقابة فعليّة. ويُمكن لهذا المجتمع أن يتّعظ جيداً من تجارب بلدان ليست بعيدةً جداً ــ مسافة وتطوراً ــ (مثل إنكلترا) والنظر إلى الأردن مثلاً، حيث فُتح أخيراً الباب على مصراعيه على تقويم تجارب الشراكة والخصخصة ــ التي مسّت مختلف القطاعات ذات المنفعة العامة الأساسية منذ انطلاق السياسات الليبرالية مطلع الألفية. فمع موجة الاحتجاجات العربية تصاعدت الانتقادات من مختلف شرائح المجتمع الأردني ضدّ أساليب الخصخصة ومصادرة الثروات انطلاقاً من «شبهات فساد» حول صفقة تملك أرض بقيمة 500 مليون دولار في مدينة العقبة لبناء مشروع سياحي. ونتيجة الضغط جمّدت الحكومة تنفيذ خطط لمشاريع شراكة مع القطاع الخاص بمليارات الدولارات. اقتصاد العدد ١٧١٥ الخميس ٢٤ أيار