كتب حسن شقراني, محمد وهبة في جريدة الاخبار بتاريخ 20-6-2012 هل تجددت تحذيرات رياض سلامة من تدهور الأوضاع النقدية والمالية التي أطلقها مطلع عام 2011 بالتوازي مع احتدام الأزمة السياسية حينها؟ الإشارات أضحت كاملة لهذا التحذير وخصوصاً أنّ ميزان المدفوعات اللبناني يستمرّ بتسجيل عجوزات والخطورة تزداد الآن في ظلّ اشتداد البلبلة والتململ وتدهور الثقة
الخطورة المسجّلة في أداء ميزان المدفوعات اللبناني – الذي يعكس بعضا من علاقة لبنان التجارية والمالية بالخارج – ليست في حجم العجز المسجّل بحدّ ذاته، بل في استمراره خلال عام ونيّف، من دون أي تحسّن في المعطيات التي قد تُهدئ الأوضاع، وأبرزها الإحداثيّات السياسية والأمنية. العجز يعني أن البلاد تتعرّض لضغوط ماليّة ونقديّة، قد تصل في المراحل القصوى إلى اهتزاز وضع العملة الوطنية. ولذا نسمع جميع دوائر القرار حالياً، من مجلس الوزراء وصولاً إلى المصرف المركزي، تحذّر من خطورة استمرار هذا النمط. والجميع يذكر تحذيرات الحاكم رياض سلامة في بداية عام 2011، حول «دقة المرحلة» و«استقرار الليرة». لا شكّ في أن الأوضاع حالياً هي عند مستوى أعلى من الدقّة عمّا كانت عليه خلال تلك الفترة، ورغم ذلك لم تصل الخطورة إلى ذروتها وإن كان العجز قد سجّل حتّى نيسان الماضي ضعف المستوى تقريباً المسجّل في الفترة نفسها من عام 2011. لكن هناك جوانب كثيرة مثيرة للاهتمام في قياس علاقة لبنان التجارية والمالية مع الخارج تضجّ بالتناقضات! بداية، يؤكّد الأمين العام لجمعية المصارف، مكرم صادر، أنّ العجز الذي بلغ 916 مليون دولار خلال الأشهر الأربعة الأولى، «هو امتداد للنمط السلبي الذي لم يتوقّف منذ العام الماضي»؛ ولكن في تلك المرحلة كان العجز 598 مليون دولار فقط. وهنا يوضح أنّ «أوضاع المنطقة وتحديداً سوريا بدأت تنعكس جدياً على لبنان، إضافة إلى سوء إدارة الشؤون العامّة محلياً، ما يزيد من تدهور الثقة». والثقة أساسية للبنان لجذب الأموال من الخارج وتعزيز الجانب الإيجابي من ميزان مدفوعاته. فالأموال الوافدة هي الودائع من الخارج والاستثمارات الأجنبية المباشرة وتحويلات المغتربين إضافة إلى حوالات السياح. «وجميع هذه التدفقات المالية شهدت ضعفاً حتّى الآن» يوضح صادر. «برأيي لا يبدو الأفق جيداً، إذ إن العجز يُمكن أن يستمر بل حتّى يتسارع في حال لم يحدث شيء لوقف النزف وإعادة الثقة ولم تبسط الحكومة سلطتها لاستعادة الثقة»ـ، يتابع مكرم صادر، مشيراً إلى أنّ النمط حتّى الآن يوضح أن «ما يخرج من البلاد هو أكبر مما يدخل إليها». أمّا الخطير في الموضوع فهو أنّ أي صدمة سياسية أو أمنية قد تؤدّي إلى قصم ظهر لبنان في علاقته مع الخارج إذ تؤدّي صدمة كهذه إلى هروب الرساميل. «حتّى الآن يُغطّي لبنان عجزه مستخدماً ما راكمه خلال السنوات الماضية، ولكن في حال حدثت الصدمة قد نصبح في مرحلة من الخروج الصافي للأموال من لبنان». لكن، هناك رأي آخر يقوم على أن فقدان الشفافية في التعاطي التجاري مع السوق السورية – وتحديداً في هذه الأوقات من التأزّم – يُخفي إيجابيات كثيرة. إذ يؤكّد عدد من المصرفيين أن التفسير المنطقي الوحيد للعجز الحاصل في ميزان المدفوعات منذ مطلع عام 2011 إلى اليوم هو أن فاتورة الاستيراد زادت بنسبة 25% خلال الأشهر الأربعة الأولى من عام 2012 خلافاً للركود الحاصل في النشاط الاقتصادي. ويقول أحدهم «نستورد حالياً البضائع التي تُستهلك في لبنان وسوريا في الوقت نفسه، وهذا هو السبب الأساسي للتورّم الحاصل في فاتورة الاستيراد». ويوضح أنّ التصدير إلى سوريا غير ملحوظ في القنوات الرسميّة ربما لأنه يتم عبر القطاع غير النظامي الذي لا يسمح بإظهار عائدات التصدير عندما تتحوّل إلى مبالغ مالية لكونها لا تدخل إلى النظام الرسمي مباشرة بل تدريجاً وتحتاج إلى وقت طويل لتظهر فيما ليست هناك أي طريقة لاحتسابها. وبرأي الخبير الاقتصادي ألبير داغر فإنّ نظرية زيادة الاستيراد ودخول الأموال عبر القطاع غير الرسمي هي منطقية غير أنّها تحتاج إلى تدقيق. «ففي كل البلدان التي تكون معرّضة لمشاريع الحروب الأهلية وللاستهداف الخارجي، يلعب فيها القطاع غير الرسمي دوراً كبيراً». يُفضّل هذا الأستاذ الجامعي الحديث عن ميزان المدفوعات بصورة تفصيلية ودقيقة، انطلاقاً من تاريخ هذا الميزان حيث توقفت إدارة الإحصاء المركزي عن إعداد البيانات اللازمة له منذ عام 1974، فهو مكوّن من جزءين رئيسين: الحساب الجاري (السلع والخدمات والأموال) وحساب الرأسمال (الأصول الأجنبية والوطنية، محلياً وفي الخارج). غير أنّ الميزان المعلن حالياً، لا يظهر هذه العناصر بطريقة الاحتساب التي كانت تعدّ سابقاً، فقد كان هذا الميزان يسجّل على مدى السنوات الماضية فائضاً ناتجاً من الجزء الثاني منه، أي حركة تدفقات رؤوس الأموال ليصبح من السهل الاستنتاج بأن هناك عجزاً كبيراً في الحساب الجاري مغطى بالتدفقات النقدية من الخارج. وبحسب داغر، فإنه في ظل غياب أرقام مفصّلة عن ميزان مدفوعات جدّي يظهر بوضوح تصدير واستيراد السلع والخدمات، أصبح هذا الميزان يُعدّ لقياس زيادة الموجودات الخارجية لدى الجهاز المصرفي (المصارف ومصرف لبنان). هكذا يمكن توصيف أهمية ميزان المدفوعات بأنه «مؤشّر أساسي للحكم على قدرة البلد وعلى ثبات سعر صرف العملة» يتابع الأستاذ الجامعي. ويوضح أنّ في عامي 1982 و 1984 سجّل ميزان المدفوعات عجزاً بقيمة ملياري دولار، وكان هذا المؤشر أساسياً على انهيار الليرة، لأن العجز يعني خروج الأموال بالعملة الصعبة أكثر من دخولها إلى لبنان، ما يعني أن هناك حاجة للحصول على الدولارات، وهذه الحاجة تزيد الطلب بما يؤدي إلى انهيار سعر الصرف. هذا هو الخطر الأساسي من عجز ميزان المدفوعات. عجز يكافحه لبنان من خلال احتفاظ مصرف لبنان بمبالغ احتياطية بالعملات الصعبة «تمثّل كتلة مناورة تتيح له التدخّل في السوق وقت اللزوم للتخفيف من الطلب أو لامتصاص العرض، وفي حال انهيار هذه الكتلة فإن سعر الصرف معرّض للانهيار». لكن في الواقع يحتفظ مصرف لبنان بكمية كبيرة من الاحتياطات بالدولار، والآن تفوق تلك الاحتياطات 31 مليار دولار. ويرى داغر أنه بسبب الظروف الراهنة في سوريا ولبنان، يمكن أن تكون قد خرجت رؤوس أموال من لبنان بطرق متنوّعة، عبر تحويل الودائع من لبنان إلى الخارج أو بواسطة تحويل الأموال من الليرة إلى الدولار (لأنّ ذلك يعني طلباً على العملة الأميركية). ________________________________________ 916.1 مليون دولار عجز ميزان المدفوعات المعلن حتّى نيسان الماضي، وهو ثاني أسوأ أداء للفترة المذكورة خلال السنوات العشر الأخيرة، بعد أزمة عام 2005 ________________________________________ 5.13 مليارات دولار التدفّقات المالية حتّى نيسان. وهي لم تكن كافية لاحتواء عجز الميزان التجاري وخصوصاً مع تقلّص الأصول الأجنبيّة الصافية للمصارف ________________________________________ حذار سلاح الفائدة من غير الممكن الآن أبداً استخدام سلاح رفع الفائدة لإغراء المستثمرين وجذب أموالهم، يُشدّد الأمين العام لجمعية المصارف، مكرم صادر، «فأي زيادة إضافية بعد تلك التي أجريت أخيراً على سندات الخزينة ستؤثّر على الطلب وهي مسألة خطيرة لأن النمو يعتمد حالياً على التدفقات وعلى القروض المصرفية». والسلاح الوحيد المتاح هو «فرض الاستقرار». اقتصاد العدد ١٧٣٦ الاربعاء ٢٠ حزيران ٢٠١٢