كتب محمد زبيب في جريدة الاخبار بتاريخ 24-8-2012 يطغى على اللبنانيين اليوم هاجس تجدد حروبهم العبثية. ليسوا جميعهم محصنين لمواجهة هذا الهاجس، أو بالقدر الكافي لتبديده. هناك فئات واسعة تعاني تعبئة ناجزة في مواجهة فئات اخرى، وهناك جيل كامل يعاني مسح الذاكرة الذي أُنجز بكفاءة عالية على مدى العقدين الماضيين. أعداد كبيرة من الشباب تُقبل على حمل السلاح ضد أترابها، ولا تتردّد في إطلاق النار على أهلها وارتكاب جرائم القتل والخطف والترويع، تعيش في «غيتوات القلق»، مشحونة بشحنات فائقة من الكراهية للآخر! كل العناصر المطلوبة للوقوع في المجزرة أُعدّت، ولم يعد هناك إلّا القليل من الضوابط الهشّة قبل أن يبدأ القاطنون في هذا البلاد بإحصاء 150 الف قتيل إضافي وعشرات آلاف الجرحى والمعوّقين والمفقودين والمهجّرين وعشرات مليارات الدولارات من الخسائر المادية المباشرة وغير المباشرة، والمزيد المزيد من الفقراء المسحولين وراء الآلة العمياء التي تجرّهم. كل من عاش هذا النوع من الحروب يدرك أن نتائجها الكارثية محسومة وحقيقية، لكن أحداً من المنخرطين فيها اليوم لا يفعل شيئاً سوى زيادة سرعة الاندفاع نحو تحقيقها. المشترك بين الجميع، بين من يدفع اليها وبين من يخشاها، إنهم يضعون «الدولة» خارج نطاق الفعل، يتعاملون مع فكرتها بوصفها غير موجودة او غير متاحة او غير ممكنة. والبعض ممن يمسك بالقرار، او بالقدرة على المبادرة، لا يريد أصلاً أن يمثّل هذا الخطر الواقعي حافزاً لطرح «الدولة» خياراً بديلاً عن خياراته الجهنمية. من السذاجة التعامل مع ما يحصل في لبنان اليوم على أنه يجسّد (فقط) الارتدادات الحتمية للزلزال في سوريا. لا شك أن تطوّر الاحداث هنا يتصل اتصالاً وثيقاً بما يحصل هناك، إلا أن جذور هذه الأحداث (وربما الكثير منها يتشابه هنا وهناك) تعود الى أبعد من هذا الاتصال وأعمق بكثير، تعود تحديداً الى الارتضاء شبه التام بالأسطورة الراسخة التي تقول إن اللبنانيين غير قادرين على المساكنة الا داخل «بيت بمنازل كثيرة». هذا الارتضاء العام تغذّى طويلاً من ازدهار صناعة القلق التي تسمح بهيمنة فكرة أن «التعددية الطائفية» غير قابلة للتجاوز في بناء الدولة اللبنانية، فيما الهدف كان على الدوام منع اللبنانيين من تصوّر أي بديل «طبيعي» عن «نظام سياسي اقطاعي» يحكم علاقاتهم ويقرر طريقة عيشهم. في الواقع، وعلى اختلاف المراحل (باستثناء المرحلة الشهابية المحدودة)، لم تكن هيمنة فكرة التعددية الطائفية على الحياة العامّة والخاصة إلا مظلّة قاتمة لتكريس المصالح التي نشأت وترعرعت ونمت في ظل معادلة محققة تقوم على «قدر قليل جدّاً من الدولة، وبما يكفي فقط، لحماية نمط اقتصادي ليبرالي متطرّف». ولعل المرحلة التي تلت اتفاق الطائف تُثبت ذلك، إذ إن النخب المسيطرة (القديمة والجديدة) سارعت الى تقويض فرصة بناء الدولة القوية والمجتمع الموحّد والاقتصاد المتين، وهي فرصة كانت سانحة بقوّة بعد حرب مدمّرة بكل المعاني، فأعادت انتاج المعادلة نفسها، بآليات اكثر فجوراً ووقاحة ودناءة من المراحل السابقة التي تأسست عليها الحرب. جرى تجديد النظام الإقطاعي كشرط لازم لإدارة علاقات هذه النخب مع بعضها البعض وتوزيع المنافع فيما بينها، ولعل انفراط الاستقرار الظاهري منذ عام 2004 حتى اليوم يُثبت أيضاً الطابع الإقطاعي لهذا النظام المتجدد، إذ إن مثل هذا النظام لا يمكن أن يعمل الا في ظل «حَكَم» مفوّض بإطلاق الصفارة واعادة الانضباط الى الملعب كلما ظهرت مخاطر يمكن أن تهدد استمرار المعادلة المذكورة. فما إن ضعف الحكم السوري بفعل انتزاع التفويض المعطى له حتى «تخرّبت» اللعبة ولم يعد أحد قادراً على إدارتها خارج التهديد بالحرب لحماية مصالحه المهددة. لقد رتبت إدارة النظام هذه المرّة كلفة باهظة جداً. أقصت المزيد من الشباب والأسر الى الخارج طلباً للأمان وفرص العمل، وقضت بإقامة نموذج سياسي ــــ اقتصادي مرهون بالكامل للتحويلات والتدفقات الخارجية. جرى تمويل الاستهلاك بالدين وخدمته عبر عوائد تصدير البشر... فتحت شهية متعاظمة للأنفاق، رتّبت ديناً عاماً يتعاظم بدوره ويؤدّي الى تقليص انتاجية الاقتصاد فيجري تشجيع المزيد على الهجرة، ويجري استيعاب من لم يمتلك حظوظ الهجرة في إدارات الدولة ومؤسساتها أو دفعهم دفعاً نحو النشاطات الهامشية المتصلة بعمل النموذج نفسه. جرى توجيه الإنفاق العام نحو خدمة آلية تركيز الثروة، ما زاد حدّة التفاوتات الاجتماعية، وأدّى إلى انهيار البنى التحتية وتراجع نوعية الخدمات العامّة واستقرارها ورفع من كلفتها. لم يكن ذلك عبثاً او نتيجةً خطأ، فآلية اعادة توزيع الثروة كانت تعمل بنجاح منقطع النظير، وتؤمّن الشروط الضرورية لاستمرار هذا النظام: جرى الترويج لمقولة «الدولة تاجر فاشل»، علماً أن الدولة عليها أن لا تكون تاجراً ولا تبتغي الربح أصلاً الا في مجال تعظيم أرباح المواطنين... زادت حاجة الناس لبيع ولاءاتهم مقابل الحصول على الوظائف والتعويضات والتقديمات الصحية والتعليمية وأبسط الخدمات العامّة... الدولة تحوّلت بذلك الى إقطاعيات موزّعة بطريقة او بأخرى على مواقع نفوذ محددة وواضحة، وهذا بدوره أسهم في المزيد من الإضعاف للدولة، بحيث لم تعد قادرة على تلبية الجزء الاكبر من الحاجات، ما وفّر فرصة للإقطاعيين المحليين أنفسهم ليؤدوا ادوار البدلاء ويراكموا المزيد من الثروات. اليوم، وفيما اللبنانيون يقفون على شفير المذبحة، يغيب كل صوت او مبادرة او فعل خارج الاستقطاب المدمّر، ليس هناك من يطرح حواراً بديهياً للخروج من هذا الواقع، بل إن جميع اللاعبين يتصرّفون كما لو أنهم يمنّنون اللبنانيين بأنهم لم يأخذوهم الى الحرب الشاملة بعد. وليس هناك من يتحلّى بالشجاعة الكافية ليقول مجرد كلمة «لا» ويرفعها في وجه منتظري ما ستؤول اليه اوضاع سوريا... لا، الدولة بكامل مواصفاتها ممكنة في لبنان، وربما هي مطلوبة اليوم، اكثر من اي وقت مضى، بسبب ما يحصل في سوريا تحديداً. اقتصاد العدد ١٧٩٠ الجمعة ٢٤ آب ٢٠١٢