الخيارات المتاحة بين السعي لزيادة الربح أو لحماية الذات
يشهد القطاع المصرفي في لبنان حالة «فوبيا» قوية. كل المصارف تخاف اليوم من أن يوجّه لها الأميركيون اتهامات على خلفية تبييض أموال أو تعامل مع مؤسسات وأفراد تصفهم بأنهم إرهابيون. الأميركيون يمسكون بمفاصل النظام المالي العالمي، فأضحت أولوية المصارف اللبنانية «حماية الذات» لا تعزيز جشع الأرباح محمد وهبة الاخبار : 29-8-2012 يقول مصرفي بارز إن المصارف اللبنانية تسعى اليوم «إلى حماية الذات ولم تعد أولويتها زيادة الأرباح في ضوء ما يجري من حولنا». هذه الوجهة الجديدة تعزى الى أسباب كثيرة، وإن كانت لا تلغي الجشع المنقطع النظير لدى المصارف لتحقيق الأرباح وزيادتها. فالمصارف مصابة اليوم بـ«فوبيا» بدأت تظهر ملامحها اعتباراً من سقوط «البنك اللبناني الكندي» في القبضة الأميركية في شباط 2011. منذ ذلك اليوم، والمؤسسات المصرفية في لبنان بدأت تصبح أكثر قلقاً وحذراً في تعاملاتها مع المودعين أو المقترضين. أما مؤسسات الرقابة المصرفية، مثل مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف، فبدت أكثر هدوءاً وانسجاماً مع القرارات الاميركية... الجميع يريد أن يحافظ على رأسه ولكل طريقته. في الواقع، إن مشهد سقوط البنك اللبناني الكندي يتكرّر يومياً في أذهان المصرفيين اللبنانيين. تراودهم أفكار كثيرة عن عمليات نفّذوها تشبه إلى حدّ بعيد ما قام به البنك اللبناني الكندي وأسقطه بيد وزارة الخزانة الأميركية. بعضهم كان أكثر تحفظاً، وبعضهم كان يعتزم التهوّر أكثر. الغالبية تعلم أنه في البنك اللبناني الكندي كان هناك جواسيس مزروعون للعمل لمصلحة الأميركيين والإسرائيليين «وإلا كيف علموا كل هذه المعلومات التفصيلية عمّا كان يقوم به هذا المصرف، وكيف أوردوا في ورقة اتهامه أرقام إيصالات بعض العمليات الداخلية بين المصارف؟» يسأل عضو في مجلس إدارة جمعية مصارف لبنان. صحيح أن أحد موظفي البنك اللبناني الكندي كان عميلاً إسرائيلياً، لكن المعلومات الأميركية أوسع بكثير مما كان متاحاً لهذا العميل. يضاف إلى ذلك ما يتناقله بعض مديري المصارف في مجالسهم الخاصة عن أن هناك جواسيس آخرين زوّدوا الأوروبيين معلومات عن المصرف التجاري السوري اللبناني... كل ذلك يثير تساؤلات أصحاب المصارف ومديريها عن مدى انتشار العملاء والجواسيس الذين يراقبون أعمالهم لمصلحة الإسرائيليين والأميركيين. وأكثر ما يشدّ الخناق على المصرفيين في هذه الأيام، أن «كل التعاملات بالدولار الأميركي يجب أن تمرّ من خلال النظام المصرفي الأميركي، وبالتالي فهي تحت مراقبة الأميركيين إلى درجة أن النظام المصرفي العالمي في قبضتهم»، يقول مدير أحد المصارف الكبرى في لبنان. لم تتوقف حالة القلق والهلع لدى المصرفيين اللبنانيين منذ شباط 2011، لأن لدى «الأميركيين قدرات تكنولوجية هائلة تمكنّهم من متابعة كل المعلومات التي تمرّ بالنظام المصرفي العالمي ومراقبتها والاطلاع عليها، فيما هناك ملاحقة أميركية لكل ما هو إيراني وسوري وسوداني... لذلك، فإن من الحكمة أن نكون جزءاً من سوق عالمية» وفق رأي مصرفي مسؤول. هكذا يبرّر المسؤول الصعوبات التي تعاني منها المصارف والتي دفعتها إلى البحث عن حماية الذات بعيداً عن العناية الزائدة بتعزيز أرباحها السنوية ونموّها. لا بل إن هناك مؤشرات كثيرة تبرّر مثل هذا السلوك. فبحسب عضو في مجلس إدارة جمعية المصارف، لم تتوقف الحملة الأميركية على القطاع اللبناني بعد، وإن من باب التهديد المستمرّ أو التهويل والتذكير بأن الأميركيين يتابعون هذه الملفات بدقة. ففي الفترة الأخيرة، اجتمعت السفيرة الأميركية في لبنان مورا كونيللي بمجلس إدارة جمعية المصارف وأبلغتهم أنها تريد أن تعلم أين ذهب 36 حساباً مصرفياً من البنك اللبناني الكندي بعدما رفض «سوسييتيه جنرال بنك» دمجها ضمن الأصول التي استحوذ عليها من البنك اللبناني الكندي. ويعتقد عضو مجلس الإدارة أن حديث كونيللي كان واضحاً لجهة كونها تعلم بدقّة أين ذهبت هذه الحسابات وما هي طبيعتها (ودائع، تسليفات...) «لكنها كانت تريد إيصال رسالة تخويف إلى المصارف لإبقائها تحت الضغط... وهذا ما حصل». قبل زيارة كونيللي، كانت المصارف قد تلقت رسائل من مصارف المراسلة الأميركية تطلب منها التشدّد في العمليات المصرفية، ثم طلبت منها وقف التعامل مع تجّار السيارات المستعملة... ثم استُكمل الضغط الأميركي من طريق الطلب إلى السلطات اللبنانية توقيع اتفاقية «FATCA» للامتثال الضريبي، والتي تهدف إلى معرفة حسابات الأميركيين في لبنان. وبعد فترة تبيّن أن المصارف اللبنانية ترفض أن تقوم ببعض المعاملات المصرفية لمصلحة «بنك صادرات إيران». كل هذه الأمور كانت تناقش في اللقاء الشهري الذي يجمع مجلس إدارة جمعية مصارف لبنان مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وأعضاء لجنة الرقابة على المصارف. وفي غالبية هذه النقاشات كان يتم الاتفاق شفهياً على ألا تقوم المصارف بمعاملات لمصلحة أي زبون إيراني أو سوري أو سوداني. بعض أصحاب المصارف ومديريها ينتقدون سلامة على التسهيلات التي حظي بها بعض الزبائن، من قبل مصرف لبنان، وسمحت للأميركيين بالدخول إلى القطاع المصرفي من الباب الواسع. ويشير هؤلاء إلى أن «من بين الحسابات الـ36 التي تبحث عنها كونيلي، هناك واحداً بقيمة 600 مليون يورو أتى صاحبه من أفريقيا مرغماً على بيع كل ممتلكاته هناك، لكنّ النافذين في مصرف لبنان كانوا يبحثون عن مصرف يستقبل هذا المبلغ الذي توزّع جزء منه على البنك اللبناني الكندي». وليس هذا النقد الوحيد الموجّه لسلامة وأعضاء لجنة الرقابة، بل هناك مصرفيون يعتقدون بأن سلامة يسلّم القطاع للأميركيين ويضرب السرية المصرفية عندما يسوّق لتوقيع اتفاقية «FATCA» ويجد لها المخارج الدستورية والقانونية. على أي حال، هناك حالة استسلام لدى المصرفيين، فهم يجزمون بأن أعناقهم بأيدي الأميركيين، وأنه ليس بأيدهم أي حيلة لمقاومة هذا الأمر، «فما يريده الأميركيون سيكون كالسيف القاطع وفق رؤوس الجميع»، يقول مدير أحد المصارف الكبرى. ومن أبرز معالم حالة «الفوبيا» هذه، أن المصارف اللبنانية توقفت عن استقبال الودائع السورية التي باتت تذهب إلى الأردن ودبي، وتوقفت عن استقبال الودائع النقدية الكبيرة التي كانت تتهافت للحصول عليها من المغتربين اللبنانيين في مختلف دول أفريقيا. ________________________________________ 483 مليون دولار قيمة المبلغ الذي تطالب به وزارة الخزانة الأميركية بسبب تبييض الأموال من طريق عمليات نفذت عبر البنك اللبناني الكندي ________________________________________ 5 في المئة هي النسبة التي يحصل عليها بعض الصرافين الأردنيين لإدخال الأموال السورية النقدية إلى القطاع المصرفي الأردني